الفصل الرابع
البدو
اندفع حشد ثائر من آلاف البدو عبر شوارع العريش بشبه جزيرة سيناء في أكتوبر/تشرين الأول عام 2007، ممزقين صور مبارك ومحطمين أثاث الفرع المحلي للحزب الوطني الديمقراطي، ومحرقين أطر السيارات في الشوارع، وملقين الحجارة ومطلقين الرصاص في الهواء ومحطمين نوافذ المحال. وأخيرا، استخدمت قوات الشرطة القنابل المسيلة للدموع لفض هذه الاحتجاجات. وأكدت وسائل الإعلام الرسمية أن تلك الاضطرابات وقعت نتيجة لاندلاع نزاع بين قبيلتي الترابين والفواخرية البدويتين، بعد حادثة إطلاق نار أصيب فيها ثلاثة أشخاص أثناء مغادرتهم لأحد المساجد بعد الصلاة. وصف محافظ العريش تلك الواقعة بقوله إنها «حادثة محلية منفردة» ونقلت الصحافة الرسمية في حينه أن قبيلة الترابين كانت فقط غاضبة من فشل الحكومة في حمايتها من قبيلة الفواخرية. لكن منظمة شهيرة مستقلة غير هادفة للربح بالولايات المتحدة تدعى إنترناشيونال كرايسيس جروب ذكرت في تقرير مذهل صدر في يناير/كانون الثاني عام 2007 عن الوضع في سيناء؛ أنه بعد أسبوعين فحسب قام مئات من البدو بقطع الطريق الرئيسي المؤدي إلى مدينة شرم الشيخ بإطارات سيارات محترقة ومتاريس من الأحجار؛ احتجاجا هذه المرة على إزالة عشرين منزلا زعمت السلطات أنها بنيت بلا تصاريح. وبعد بضعة أيام اندلعت المزيد من احتجاجات البدو في العريش مطالبة بإطلاق سراح بعض سجناء البدو الذين زعموا أن بعضهم اعتقل بلا محاكمة منذ عام 2004، عندما وقعت في مدينة طابا هجمات إرهابية كانت بمنزلة شرارة الانطلاق لسلسلة من التفجيرات في منتجعات البحر الأحمر المبهجة التي تمثل جزءا هاما من قطاع السياحة في مصر، وإشارة إلى عودة الإرهاب إلى مصر من جديد بعد سبع سنوات من الهدوء. •••
تتمتع مدينة طابا بالكثير من الملامح الجذابة الساحرة، إذ يجري إعداد الكثير من الفنادق الرائعة الجديدة بها جزءا من خطة مصرية لإنشاء شاطئ شبيه بشاطئ الريفييرا على طول خليج العقبة لاستقبال موجة جديدة من السياح الأوروبيين والإسرائيليين الأثرياء الذين تحرص الدولة على تلبية متطلباتهم: انتقلت شركات المقاولات إلى المدينة لبناء مجمعات سكنية متكاملة بها ألعاب مائية وتصميمات أندلسية، مما أطاح بالشركات المحلية القائمة. كان الأمر كله - بطريقة ما - عبارة عن تكرار لنفس القصة الحزينة التي حدثت في القاهرة بعد انقلاب عام 1952. وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 2004، اختار الإرهابيون هدفهم بعناية: فجروا أحد أبرز المواقع التي يقصدها السائحون؛ وهو ليس رمزا معماريا لقطاع السياحة العالمي فحسب بل إنه أيضا موقع الإقامة الذي يفضله السياح الإسرائيليون: فندق هيلتون طابا. أودى الهجوم بحياة أربعة وثلاثين شخصا كان جزء كبير منهم إسرائيلي الجنسية. ثم وقعت تفجيرات أخرى في يوليو/تموز عام 2005 في أكبر منتجعات البحر الأحمر وأقدمها؛ منتجع شرم الشيخ، مما أسفر عن مقتل ثمانين شخصا في ذروة الموسم السياحي. لكن أغلب القتلى كانوا من المصريين. ثم كان دور مدينة دهب التي وقعت فيها ثلاثة تفجيرات قتلت تسعة عشر مصريا. لكن ردة فعل القاهرة ظلت هي نفسها في كل مرة: اعتقالات جماعية - إذ يزعم أن الآلاف من البدو اعتقلوا وعذب الكثير منهم - وتوجيه اتهامات غامضة إلى تنظيم القاعدة، من شأنها بالطبع أن تطرب آذان ممولي نظام مبارك في واشنطن.
وبعد تحقيقات مرتبكة، وجهت الحكومة المصرية الاتهام في نهاية الأمر إلى جماعة لم تكن معروفة من قبل تدعى جماعة التوحيد والجهاد. أوضحت إفادة حصل عليها المصريون من أحد زعماء الجماعة أنها بالدرجة الأولى جماعة فلسطينية إسلامية، وأن بعض من نفذوا الهجمات تدربوا في فلسطين (وكل قادة الجماعة قتلوا أو سلموا أنفسهم مما أضعفها إلى درجة قاتلة). ويذكر تقرير منظمة إنترناشيونال كرايسيس جروب أن هناك سببا قويا يدعو إلى افتراض أن الهجمة الأولى كانت مرتبطة بفلسطين؛ بالنظر إلى كثرة ضحاياها الإسرائيليين، أما الهجمتين الثانية والثالثة فيدلان في الواقع على أن الإرهابيين يبعثون برسالة إلى نظام مبارك؛ فلعلها ليست مصادفة أن المواقع التي استهدفتها الهجمات بالدرجة الأولى في دهب تخص أحد سكان المنطقة الذين ساهموا بمبالغ كبيرة في حملة مبارك الانتخابية.
الوضع على أفضل تقدير فوضوي، ولا يزال يثير سؤالا: لماذا تستهدف حملات القمع التي تقوم بها القاهرة بدو سيناء بالأخص؟ •••
تغطي شبه جزيرة سيناء مساحة 61000 كيلومتر مربع، وتمتد من شاطئ البحر المتوسط إلى خليج السويس وخليج العقبة، مشكلة إقليما حدوديا عند نقطة التقاء قارتي أفريقيا وآسيا. وقد ظلت دائما حاجزا استراتيجيا يفصل بين وادي النيل وجيران مصر الشرقيين. وظلت السيطرة على سيناء حيوية منذ عهد محمد علي في بداية القرن التاسع عشر؛ ومن اللحظة التي بدأ فيها إعلان استقلاله عن سادته العثمانيين ببناء دولة ذات حكم مركزي وتعيين حدودها. ثم أصبحت المنطقة بافتتاح قناة السويس عام 1869 مركزا لمحاولات الدول الأوروبية للسيطرة على التجارة بين البحر الأحمر والبحر المتوسط. في معاهدة طابا الأولى التي عقدت عام 1906، نجح البريطانيون - الذين فرضوا الانتداب البريطاني على مصر منذ عام 1882 - في ضم شبه جزيرة سيناء رسميا تحت الحماية البريطانية على مصر، ووضعوا الحد الفاصل بين مصر وفلسطين. ومنذ تلك اللحظة، أدار الجيش البريطاني شئون شبه جزيرة سيناء التي خضعت لصور شتى من السيطرة العسكرية.
لا تزال قناة السويس من عدة نواح هي الحد الشرقي الحقيقي لمصر، أما سيناء فيصفها تقرير منظمة إنترناشيونال كرايسيس جروب بأنها منطقة «شبه منفصلة». وخضعت سيناء وقطاع غزة لسيطرة الجيش المصري بين عامي 1949 و1967، إلا أن مصر لم تعلن سيادتها إلا على سيناء فقط. ثم كانت حرب النكسة عام 1967 التي وقعت فيها كلتا المنطقتين تحت السيادة الإسرائيلية، وباتت رمزا للكرامة العربي الجريح. وكان من الطبيعي أن تصبح سيناء هي جوهر المفاوضات بين مصر وإسرائيل في اتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر/أيلول عام 1978، واتفاقية السلام في مارس/آذار 1979. كانت تلك القضية من منظور مصر قضية استعادة أرض وموقف وطني حازم، ولا صلة لها حتى بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وباختصار، تحولت سيناء إلى فكرة تجريدية. وتبين الجهود الدبلوماسية المعقدة والمطولة التي بذلت لاستعادة مقاطعة طابا وحدها مدى حرص مصر على المنطقة؛ ولكن ليس على أهلها بالضرورة. وفي نهاية الأمر، أخليت سيناء من الأسلحة والقوات، واحتلتها قوة دولية متعددة الجنسيات تقودها الولايات المتحدة بدأت عملها عام 1982، في اليوم نفسه الذي انسحبت فيه إسرائيل من سيناء. وحتى يومنا هذا، لا تزال سيناء خاضعة للنظام الأمني الخاص الذي أقرته معاهدة السلام، التي تقيد إلى حد بعيد حرية مصر في القيام بأي إجراءات عسكرية هناك .
إلا أن سيناء ليست فكرة تجريدية فقط أو «مشكلة إرهابية»؛ فقد كانت على مر التاريخ أرض البدو أهل الصحراء الذين قدمت قبائلهم من الأصل من شبه الجزيرة العربية ودول شرق البحر المتوسط، ويعيش بها قرابة خمسين قبيلة رئيسية في مناطق تحكمها وتضع حدودها معاهدات بين جماعات يحكمها قانون عادات قبلية لا قانون الدولة. من بين هذه القبائل قبيلة العزازمة التي يتوزع أفرادها بين الأردن وسوريا وفلسطين ومصر. يزعم العزازمة أنهم يملكون جميع الأراضي الواقعة بين بئر صنعاء ووادي عربة في غرب مصر، بالإضافة إلى بعض أراضي صحراء سيناء، وهم يسيطرون على وسط سيناء مع قبيلة التياها وقبيلة الأحيوات. وفي الشمال الشرقي على طول البحر المتوسط، هناك قبيلتا السواركة والرميلات، التي استقر أغلب أفرادها في الوقت الحالي في العريش ومنطقة الشيخ زويد ورفح. وفي الغرب، تشكل قبائل المساعيد والبياضية والدواغرة الأغلبية. أما في الجنوب، فالجماعات التي تشكل الأغلبية هي مجموعة من القبائل المتحدة من بينها قبيلة أولاد سيد ومزينة التي تسكن في منطقة شرم الشيخ، وفي الجبال الداخلية، لا سيما في منطقة دهب. ومن القبائل المهمة أيضا على مر التاريخ قبيلة الترابين - وهي القبيلة المعنية بالاضطرابات التي نتحدث عنها - في منطقة نويبع وفي الشمال - وهو الأهم - وصولا إلى إسرائيل والضفة الغربية.
لكن من يوصفون بالبدو بوجه عام هم في الحقيقة - كما يوضح تقرير منظمة إنترناشونال كرايسيس جروب - مجموعة مختلطة من السكان يعكسون تاريخ استيطان شبه جزيرة سيناء، تتبدى بينهم اختلافات واضحة من حيث الأصل، والتقاليد، والأنشطة الاقتصادية، وحتى اللغة. لقد قدموا من كل صوب، بل إن أفراد قبيلة الجبالية ليسوا حتى عربا، وإنما يعتقد أنهم قدموا من مقدونيا إذ أرسلهم العثمانيون إلى سيناء لتأمينها، وهناك تحولوا إلى الإسلام، واليوم يصنفون على أنهم من البدو، مع أنهم يحتفظون بهويتهم المستقلة من خلال ارتباط عجيب بدير سانت كاترين (وهو مزار سياحي هام يقع عند سفح جبل الطور الذي يقال إن النبي موسى تلقى عنده الوصايا العشر)، ومن خلال سيطرتهم على تلك المنطقة وطرقها السياحية. ويمكن تمييز قبائل أخرى من لهجاتها قريبة الشبه بلهجات أبناء دول شرق البحر المتوسط وشبه الجزيرة العربية، التي تميز أيضا بين قبيلة وأخرى. بعض القبائل أتت من أقصي جنوب البلاد، حيث النوبة، التي امتدت تاريخيا من أسوان إلى داخل أرض السودان. ولا يعلم أحد عدد أفراد تلك القبائل. وصلت تقديرات عدد أفرادها إلى ما يقرب من مائتي ألف شخص من بين تعداد سكان يصل إلى ثلاثمائة ألف وستمائة شخص في شبه جزيرة سيناء بأسرها. والباقون فلسطينيون يتسم شعورهم بهويتهم القومية بالقوة نفسها. لكن تظهر البيانات التي جاءت في إحصاء عام 1995 أن بضعة آلاف فقط من السكان يصنفون على أنهم بدو يعيشون في الجنوب، أغلبهم من الفلاحين والصيادين وبعض التجار الذين حالفهم الحظ؛ والموظفين الحكوميين، فثمة ما يقدر بنحو خمسة وسبعين ألف شخص من البدو لا يتمتعون بأي حقوق مواطنة. منحت الحكومة المصرية بعضهم على أفضل تقدير أوراق تعريف هوية خاصة بسيناء، ومن بين القبائل التي تتجاهلها الحكومة المصرية قبيلة الرشايدة في منطقتي حلايب وشلاتين التي قدمت من الأصل من دولة قطر وانتقلت فيما بعد إلى السودان ومصر - حيث استقرت حول النيل وفي جنوب البلاد وعلى البحر الأحمر - وقبيلة الطفيلات في جنوب سيناء وقبيلة المحلة في رفح على حدود مصر مع غزة. في هذا السياق أخبر أحد شيوخ القبائل صحيفة الخميس الرسمية أن التعقيدات المتصلة بحقوق المواطنة تعود إلى أيام معاهدة طابا الأولى التي عقدت عام 1906؛ فعلى حد قوله: «ورد في المعاهدة أن جميع من يسكنون مصر يجب أن يتمتعوا بحقوق المواطنة المصرية، وعندما أجرى الجيش الإنجليزي الإحصاء الأول لتعداد السكان عام 1924، منحت جميع القبائل أوراق تعريف هوية»؛ لكن هذا ليس صحيحا! •••
अज्ञात पृष्ठ