لكن الإسلام دين سلام ورحمة. ما سبب ذلك إذن؟ عرف المصري منذ القدم بأنه لا يبرح أرضه قط؛ فكرامته مرتهنة بها، لكن بعد ثورة عام 1952 وبعد كل الأزمات الاقتصادية التي مرت بها البلاد، أجبر على الرحيل، فسافر إلى المملكة العربية السعودية أو دول الخليج بحثا عن عمل، وعندما تتنازل عن جزء من كرامتك، تتأثر أخلاقياتك. قبل عام 1967 أشعر عبد الناصر المصريين بقدر من الكرامة، لكن تبين أن الحرب كانت نكسة مريعة، على الرغم من كل ما زعمه رجال النظام آنذاك، فقرر الشعب ألا يثق فيما يقوله هؤلاء وأن يلجأ إلى الله، وأن يفكر في الآخرة لأن الأمل انقطع في الدنيا، مع أن الإسلام يأمر بأن يعمل المرء لدنياه وكأنه يعيش أبدا وأن يعمل لآخرته وكأنه يموت غدا.
لم ينتقل إلى عكاشة الحنين إلى عهد ما قبل الثورة الذي استشرى على نطاق كبير؛ فهو يرى أن هذا الشعور هو وهم خطير. يقول: «من يلتفتون إلى عهد مضى كعهد الملك فاروق مثلا لم يعاصروا تلك الآونة؛ هم يرون أنه كانت توجد حرية تعبير أكبر وديمقراطية أكبر، لكن دعنا لا ننسى أن طبقة معينة تشكل نسبة 0,5 بالمائة من سكان مصر امتلكت كل شيء في مصر وتركت باقي الشعب فقيرا معدما. كانت توجد حرية تعبير، ولم يفرض بالقطع قانون الطوارئ، وقد تدهور الحس الجمالي بالفعل لدى المصريين إلى حد بعيد منذ الثورة، لكنني أعارض بشدة من يكثرون الحديث عن الماضي، وأعتقد أن مقارنة الحاضر بالماضي البعيد خطأ بكل المقاييس.»
ماذا إذن عن المستقبل؟ ما هي فرص أن تتحول الفوضى الحالية والوضع اليائس القائم إلى أمر إيجابي؟ أم علينا أن ننبذ كل أمل في التقدم؟ يقول دكتور عكاشة:
أفضل الاعتقاد أنه ستكون هناك فوضى بناءة بطريقة ما، لكن لا أعتقد أننا سنحرز تقدما إن ظل صانعو السياسات الحاليين يتبنون المنظور نفسه، وستتحول المسألة إلى فوضى عارمة. إلا أنني أرى في وسائل الإعلام والصحف والمفكرين الجدد أملا يجبر صانعي السياسات على التغيير. أعتقد أنه ستكون هناك فوضى طالما أن محركي السياسة المصرية يفتقرون إلى الشفافية ولا يخضعون للمساءلة ولا يغيرون سلطاتهم. إما أن يقع انقلاب أو يحكمنا نظام إسلامي متطرف، لكن قد تقود الأحزاب السياسية إلى تغيير سلمي. علينا أن نفهم أن أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي مصريون، إن جلست معهم فسيحدثونك كما نتحدث الآن، لكنهم لا يستطيعون التصرف لأن القوات المسلحة هي في الواقع من يحكم البلاد، وإن تفوهت بشيء ضدها، تنتهي إلى السجن. لكن القيادة على أي حال هي انتخاب الأشخاص المناسبين للمساعدة على أداء المطلوب بطريقة سليمة . ومع الأسف فإن مصر يحكمها مثلث سلطة ومال ونفوذ. إن تمتعت بأحد تلك المقومات فسيتاح لك المقومان الآخران، ولن ترغب في التخلي عن أي منها.
قال هذا وقد بدا أن نبرة حزن تسللت إلى صوته. •••
مثل محاولات النظام المستمرة لإنهاء ختان الإناث الممارس على نطاق شبه شامل، والقائمة على فتاوى رسمية أعلنت أن الختان ليس من تعاليم الإسلام، وكجهوده لمحو الأمية برعاية برنامج قومي متعال للقراءة قادته قرينة الرئيس التي تعشق وسائل الإعلام؛ حققت حملة طويلة لتنظيم الأسرة نتائج توصف على أحسن تقدير بأنها هزيلة. فقد أظهر الإحصاء الرسمي للسكان الذي أجري عام 2006 أن كل ثلاث وعشرين ثانية تشهد قدوم مولود مصري، مما يرفع إجمالي عدد السكان في مصر - باحتساب من يقيمون خارج البلاد - إلى ستة وسبعين مليون نسمة وهو معدل زيادة يفوق المعدل الذي سجله إحصاء عام 1996 بنسبة سبعة وثلاثين بالمائة، ويعني هذا أن سكان مصر يمثلون ربع سكان العالم العربي. ويقدر عدد سكان القاهرة وحدهم بنحو عشرين مليون نسمة، فيما بلغ عددهم نصف مليون نسمة فقط مع بداية القرن العشرين؛ وتظهر آخر الإحصاءات أن العاصمة في الآونة الأخيرة شهدت أكبر معدل نمو سكاني بين سائر محافظات البلاد (بلغ 11٪ تقريبا). واليوم يتوقع النظام الحاكم أن يبلغ عدد سكان القاهرة في عام 2022 نحو ثمانية وعشرين مليون نسمة، مع أن المدينة يسكنها 43٪ من إجمالي سكان المناطق الحضرية في البلاد، وتضم 55٪ من جامعات الدولة، و46٪ من إجمالي عدد الأسرة بالمستشفيات، و43٪ من إجمالي عدد الوظائف، بالإضافة إلى جيش من العاطلين، ومليون ونصف مليون لاجئ سوداني وعراقي، ومليون مصري يضطرون إلى السفر يوميا لقضاء مصالحهم في الأجهزة الحكومية البيروقراطية المقبضة للصدر. ومن الواضح أن القاهرة ستستمر في النمو بسرعة صاروخية على نحو أشبه بكابوس مزعج لأي مخطط عمراني.
تعود حركة التمركز في القاهرة إلى نظام عبد الناصر الديكتاتوري الذي سيطر عليه جنون الارتياب. جعل عبد الناصر القاهرة مركز السلطة المطلقة، عملا بفلسفة السيطرة على الرأس، ومنه السيطرة على سائر الجسد، وهو ما أضر بدرجة كبيرة بالمدن الأصغر ودلتا النيل (الواقعة شمال القاهرة) وصعيد مصر (جنوبها). على سبيل المثال: مدينة الإسكندرية الساحلية المطلة على ساحل البحر المتوسط - ثاني أكبر مدن مصر والمنافس التاريخي الوحيد للقاهرة على الشهرة - لم تعد إلا أثرا واهيا للمدينة التي صورتها عشرات الأفلام المصرية الشهيرة التي تعود إلى الأربعينيات، حيث عثر الشباب والفتيات على الحب في الإجازات، وامتدحت أغاني هذه الحقبة الشهيرة نسيم بحر الإسكندرية البارد وجمال نسائها والبساطة التي ينبت بها الحب فيها، وقد رثى لورانس دوريل في روايته «رباعية الإسكندرية» مجتمعها الرائع متعدد الثقافات، وكذلك مكانتها كساحة رخيصة وساحرة إلى أبعد حد لمؤامرات القوى العظمى وغير العظمى. أغلقت أغلب ملاهي المدينة الليلية ومطاعمها الشهيرة التي يديرها الأجانب؛ إذ عاد ملاكها منذ زمن طويل إلى أوروبا للاستقرار بها إلى الأبد، ولم يتبق بالمدينة إلا بعض المسنين الواهنين من مجتمع الأجانب الذي تمتع فيما مضى بالثراء، وشمل اليونانيين والقبرصيين والإيطاليين والفرنسيين والأرمن.
بل أصبحت الإسكندرية التي أسهب فيها أبطال لورانس دوريل البروتستانتيين والأرثوذكس في وصف أسرار مذهب الكابالا ومدح جمال عشيقاتهم هي أكثر مدينة تنتخب مشرعين من جماعة الإخوان المسلمين الأصولية، وصار على سكان المدينة الذين يبلغ عددهم خمسة ملايين شخص أن يقنعوا بالدرجة الأولى بحفظ القرآن. واليوم يطبق العائدون من دول الخليج عقيدتهم الوهابية الجديدة بتشدد؛ فيصرون على أن تستحم نساءهم في البحر مرتديات عباءات تغطي أجسادهن بالكامل، وعلى ألا يتحدث أطفالهم إلى المسيحيين لأن هذا محرم دينيا بما أنهم كفار. في ظل هذا المناخ الاجتماعي المخيف، فشلت مكتبة الإسكندرية الجديدة، التي تكلف بناؤها مبلغا قدره 230 مليون دولار وأنشئت بهدف إحياء ماضي المدينة الأسطوري (والتي هي أشبه بطبق لاقط عملاق لاستقبال إرسال الأقمار الصناعية) في تحفيز نهضة في الاطلاع على المعارف. •••
أثناء زياراتي لعائلة إيهاب البالغ من العمر عشرين عاما - الذي صادقته في قطار متجه من الصعيد إلى القاهرة في إحدى رحلاتي في شمال وجنوب البلاد - كثيرا ما كنت أتذكر وصف سمير رأفت للقاهريين بأنهم «يئوون كالجرذان»، وتحليل دكتور عكاشة لخط تدهور الصحة النفسية لدى فقراء المصريين. كان إيهاب شابا طويلا نحيفا يبدو عليه الوهن، عكف على قراءة إحدى الصحف في عربة قطار سافرت فيها. إن رأيت شابا مصريا يقرأ أي شيء فهذا في حد ذاته أمر عجيب يلفت الانتباه فورا؛ وتزايد فضولي تجاهه عندما لاحظت أنه يقرأ صفحة الرأي (وليس صفحة الرياضة أو الجرائم). تجاذبنا أطراف الحديث ونحن ندخن السجائر تحت لافتة كبيرة تحظر التدخين في عربة الحقائب التي تفصل بين عربات القطار، ولم نكن وحدنا من تجاهل هذا الحظر، بل تجاهله أيضا الحارس الذي يفترض أن وظيفته هي وضعه موضع التنفيذ. تجاهل المصريين لكل القوانين - بدءا من تلك التي تحظر إلقاء القمامة، إلى رفضهم تركيب العدادات في سيارات الأجرة، إلى امتناعهم عن احترام قواعد المرور الأساسية - يدل على فشل النظام وازدراء المصريين للسلطات التي تحكمهم سواء على الصعيد المحلي أو القومي.
تبين أن إيهاب طالب بكلية بمدينة قنا الجنوبية التي تبعد عن مدينة الأقصر السياحية نحو ساعة. كان في طريقه إلى منزل أسرته في إجازة قصيرة فدعاني إلى زيارة عائلته في القاهرة عندما يسنح لي الوقت. كانت هذه الدعوات الصادقة تأتيني كل ساعة تقريبا في التسعينيات، حتى من قبل عوام المصريين الذين لا يعملون في قطاع السياحة الضخم، لكنها بعدئذ شحت. عزوت هذا في البداية إلى أنني صرت أبدو أكثر جدية وأصبحت أتحدث العامية المصرية بطلاقة وأبدو أكبر سنا وأكثر خبرة بالحياة والناس؛ لذا صار التقرب مني أصعب. لكن في رحلة قطار أخرى أخبرني أحد أساتذة جامعة القاهرة بلطف بعد أن سمعني أحدث رفيقي في السفر عن أسفي لتضاؤل عدد الدعوات التي صرت أتلقاها أن دعوتي ستكون مكلفة؛ لأن الناس سيخجلون إن لم يقدموا لي إلا أفضل الطعام، والمشكلة هذه الأيام أنهم لا يستطيعون أن يوفروا ما يكفي من الطعام لأطفالهم. كانت أسعار السلع الغذائية آنذاك؛ في منتصف عام 2007 قد ارتفعت بنسبة 25٪ عن العام السابق، في الوقت الذي ظلت فيه الأجور ثابتة منذ عقود. هذا جزء من وتيرة معتادة على مر التاريخ؛ ففيما ارتفعت الأجور بين عامي 1978 و1988 بنسبة 60٪ ارتفعت الأسعار في غضون العقد نفسه بنسبة 300٪؛ إلى حد كانت له آثار مدمرة على أغلب السكان الذين لم تستطع أجورهم أن تواكب معدل التضخم الرسمي الذي يختلف عليه الكثيرون.
अज्ञात पृष्ठ