كانت الكثرة الغالبة من تلك الرسائل الغاضبة، مرسلة من رجال، وأوثر أن أترك لغيري تعليل هذه الظاهرة الغريبة؛ لكن الذي يهمني من تلك الرسائل «الرجالية» هو أن أصحابها لم يقرءوا مقالتي التي جاءت رسائلهم تعليقا عليها؛ بل اكتفوا بقراءة ما كتب عنها؛ وذلك واضح من طريقة كتابتها؛ وعلى أية حال، فهذه الطريقة في الاكتفاء بملخصات مبتورة، دون الرجوع إلى الأصول في اكتمالها، قد أصبحت هي العادة السائدة في تعليمنا كله على اختلاف درجاته؛ كما أصبحت العادة السائدة في حياتنا الثقافية كلها، ففقرة واحدة من مقالة تغني عن قراءتها، وإشاعة تشيع عن كتاب تغني عن قراءة الكتاب، وإذا كان هذا أمرا عجيبا في حد ذاته؛ فأعجب منه أن أولئك الذين يكتفون من المقالة أو من الكتاب بلسمة خاطفة على طرف اللسان، لا يتحرجون من أن يقفوا مما قد خطفوه خطفا، لا موقف الناقد فحسب، بل موقف المهاجم المقاتل أيضا.
ولا علينا الآن من هذه القضية العامة الشاملة لحياتنا العلمية والتعليمية والثقافية والنقدية جميعا، وحسبنا أن نحصر أنفسنا في موضوعنا الراهن، فقد قلت إن الأغلبية الساحقة من أصحاب الرسائل رجال، وإن معظم هؤلاء الرجال - كما وضح من رسائلهم - قد اكتفوا بما كتب عن المقالة التي يهاجمونها بمثل ذلك الغضب، وأضيف الآن جانبا ثالثا لعله أعجبها جميعا، فقد أوردت في مقالتي رأيا لفيلسوف ألماني عن المرأة - هو شوبنهاور - وكان واضحا أني أوردته لأسخر منه، وذكرت أنه إنما رأى رأيه ذاك، صدورا عن مرارة في صدره ترسبت منذ نشب خلاف بينه وبين أمه؛ ومع ذلك أخذ السادة أصحاب الرسائل يعنفونني، فلماذا - كما قالوا - أستمد شواهدي من رجال أوروبيين، وكان أجدر بالكاتب المسلم أن يستمد شواهده من القرآن الكريم؟!
هذه واحدة، والأخرى هي أنني في ختام مقالتي أشرت إلى امرأة الجيل الماضي في نهضتها، قائلا إنها ألقت بحجابها في البحر عند شواطئ الإسكندرية؛ وكانت الإشارة أوضح من الشمس لمن يعرفون شيئا عن تاريخ الحركة النسوية في مصر؛ إذ من المشهور المذكور أن هدى شعراوي عند عودتها من رحلة لها بالخارج - وكان ذلك عقب ثورة 1919م - ذهب حشد كبير من النساء لاستقبالها في ميناء الإسكندرية؛ ولوحت لهن الزعيمة وهي على ظهر السفينة، ثم ألقت ببرقعها في البحر قبل نزولها إلى الشاطئ، فكيف فهم إشارتي تلك السادة أصحاب الرسائل؟ فهموها على أنها إشارة إلى لابسات «المايوهات» على الشواطئ، وراحوا يصرخون: كيف أعد مثل هذا العري إيذانا بدخول المرأة عصر النور؟ وربما لو كتب الرسائل نساء، لما وقعن في هذا المطب؛ لأنهن أعرف بتاريخ الحركة نحو تحرير المرأة.
ثالثا:
ذكرت في مقالتي شيئا عن تأثير ظاهر الإنسان في باطنه، بمعنى أن يكون لحركات الأبدان، ولأنواع الثياب تأثيرها على الحالة الشعورية الباطنية، فاستنكر أصحاب الرسائل هذا الذي ذكرته؛ وقد يكون لهم عذرهم في ذلك، إذا كانوا لم ينتبهوا إلى الفرق بين النظر إلى شيء معين في حقيقته الواقعة، والنظر إليه باعتباره «رمزا» يشير إلى معنى مقصود، فالثوب الأسود هو ثوب كغيره من الثياب، لكن إذا لبسته صاحبته لتعلن به حزنها على عزيز فقدته، كان من النتائج المتوقعة عندئذ أن يحدث ذلك «الرمز» أثره في حالتها الشعورية الداخلية، بأن يشيع في نفسها حزن حقيقي؛ وإنها لتقع في تناقض يلفت نظر الرائي، إذا هي لبست ثوب الحداد ثم سلكت سلوك الضاحك المرح السعيد، إن علم الدولة في حقيقته قطعة من قماش كأية قطعة أخرى؛ لكنها منذ اللحظة التي ترسم عليها الرسوم التي تجعلها علما للدولة، يصبح لها في نفوس أصحابها قيمة شعورية خاصة، بحيث إذا رأوا أحدا يعرضها للإهانة فقد لا يكفيهم في عقابه شيء أقل من الإعدام؛ إن الوشاح الذي يرتديه القاضي وهو على منصة القضاء، و«الروب» الذي يلبسه أستاذ الجامعة في قاعة المحاضرات، أو وهو في لجنة لامتحان طالب لإجازة الدكتوراة، مقصود به أن يشيع في نفس المرتدي شعورا خاصا يتلاءم مع الوظيفة التي يؤديها؛ ولقد شهدت يوما منظرا لا أنساه لبعد مغزاه، إذ شهدت فتاة كانت من قبل عاملة في خدمة أسرة معينة، وكانت إبان تلك الفترة لا يسمح لها أن تصحب الأسرة المخدومة، إلا وقد عصبت رأسها بمنديل من مناديل الرأس المعروفة، وكانت هذه هي العادة المصطلح عليها في معظم الأسر أيام أن كانت للأسر خادمات، وكان المقصود - بالطبع - هو أن يكون على رأس الخادمة ما يعلن للناس أنها خادمة؛ والمشهد الذي رأيته هو إحدى تلك الفتيات وقد نزعت منديلها ذاك بحركة عصبية في لحظة غيظ، وهي لحظة أنفت فيها أن تعلن على الملأ حقيقة وضعها، إنه ليس في منديل الرأس عيب يعاب، بل هو قطعة جميلة من ثياب المرأة المصرية، حين تتسق مع بقية الثياب، لكنه حين يكون رمزا يشير إلى معنى بغيض، فإنه يثير النفس، وقد يدفع لابسته إلى نزعه عن رأسها في غضب، كما فعلت تلك الفتاة عندما استيقظ وعيها.
والأمثلة في حياتنا لا سبيل إلى حصرها، لأشياء تختلف معانيها وهي مجرد أشياء لها طبائعها في واقع الأشياء، ثم وهي - بعد ذلك - مستخدمة على نحو رمزي يشير إلى معنى؛ ولم يكن أحد ليعلق بكلمة واحدة على قطعة من ثياب امرأة، اختارتها كما يختار أي إنسان ثيابه التي تلائم ذوقه؛ لكن الموقف يتغير إذا أريد بقطعة معينة من الثياب أن تكون رمزا له دلالته، وها هنا يبدأ السؤال.
لقد بدأت هذه الموجة المتحفظة مع شبابنا - ذكورا وإناثا - بعد نكسة 1967م، ثم أخذت في التضخم والاتساع حين وجدت من ينفخ لها النار؛ حتى أصبحت ظاهرة في حياتنا الاجتماعية، ولا أظن أن لها شبيها في بلدان أخرى كثيرة، والظاهرة التي أعنيها هي أن يكون الجيل الأكبر في معظم الأسر، أو قل في كثير منها، أقل نزوعا إلى تلك المحافظة من الجيل الأصغر، ففي حالات كثيرة نرى الأم سافرة وابنتها محجبة (بالمعنى الجديد لهذه الكلمة الذي هو غطاء معين على الرأس، يراعى فيه أن يحقق المعنى الرمزي الذي أشرت إليه). وفي حالات كثيرة أيضا ترى الوالد الحليق اللحية وابنه مرسلها على هذا النحو أو ذاك، وإنها لمفارقة شديدة في أي مجتمع، أن ترى الجيل الأصغر منه سلفيا بدرجة تزيد على الحد المألوف، وترى الجيل الأكبر منه أقل سلفية - في ظاهره على الأقل - من أبنائه وبناته! وإذا رأيت مفارقة كهذه كان من حقك أن تتأمل أبعاد الموقف في عناية؛ لأنه يكون في هذه الحالة موقفا ضد طبائع الحياة السوية؛ إذ المألوف من تلك الطبائع أن يميل الجيل الأكبر إلى الجمود، بينما يبحث الجيل الأصغر عن أجنحة يطير بها إلى المستقبل قبل أوانه إذا استطاع، أفليس هذا الوضع العجيب داعيا لسؤال، هو: ماذا حدث فأحدث في حياتنا الاجتماعية تلك المفارقة؟ والذي حدث - أولا - هو هزيمة 1967م، فنتج عن تلك الهزيمة - ثانيا - شعور قوي بالإحباط واليأس وانسداد الطريق أمام الشباب قبل سواهم، وظهر في الوقت نفسه - ثالثا - نموذج اجتماعي نقل إلينا عن آخرين، فوجد ذلك النموذج ترحيبا من الشباب اليائس؛ وقد نضيف عاملا رابعا، هو ثورات الشباب التي عمت العالم وبلغت ذراها خلال الستينيات في أوروبا وأمريكا بصفة خاصة، وفي أرجاء العالم بدرجات متفاوتة؛ فكان لتلك الثورة العقلية والنفسية صداها في شبابنا؛ لكنه صدى جاء عندنا ليعكس الترتيب الطبيعي للأوضاع كما هو شائع ومعروف؛ فبينما الشباب الثائر في البلاد الأخرى، كان يحتج على أوضاع الحياة الراهنة وبطء حركتها نحو المستقبل الجديد المأمول، رأينا ثورة شبابنا تحتج هي الأخرى على أوضاع الحياة الراهنة، وتدعو إلى عودة بها إلى نموذج السلف، ثم وجدت هذه اللفتة السلفية من يربطها للشباب بالدين، وهنا تأتي النقطة الرابعة التي سأجعلها الأخيرة.
رابعا:
أوردت الرسائل في سياقها آيات قرآنية كريمة، يستشهد بها أصحاب الرسائل، على أن فتور الهمة نحو العلم ونحو العمل في امرأة هذا الجيل، وميلها نحو العودة إلى البيت، ونحو أن تتحجب - أو على الأقل أن تضع على رأسها رمزا يشير إلى معنى الحجاب - هو أمر تحتمه الشريعة الإسلامية، وأقول إنه لو كان ذاك صحيحا، لكنت أول الداعين إليه؛ ولكن هل هو صحيح؟ أكانت تلك الشريعة معطلة حتى جاء شباب هذا الجيل ليعيدها إلى الحياة؟ إنني مهما تواضعت في قدر نفسي، فلا أظنني أصل بذلك التواضع درجة تحرمني من فهم الآيات الكريمة التي سيقت في الرسائل شواهد على ما أراده أصحابها؛ فالقرآن الكريم كتابهم وكتابي؛ وعند هذا القول أختم الحديث، ذاكرا قول الله - سبحانه وتعالى:
قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا .
अज्ञात पृष्ठ