وفي صفحات التاريخ عشرات الأمثلة بعد عشرات، أمثلة للجريمة حين تجيء عند مقترفها نتيجة نية هي في حقيقتها نية طيبة؛ إذ ماذا أنت قائلة في سلوك يسلكه صاحبه، معتقدا أنه إنما يتحرك بدافع من ضميره الديني، فمصدر الخطأ - كما ترين - هو في تربية لم تحسن التوجيه، فتركت الناشئ ينشأ على خلل في موازين التقويم، فيحسب حسنا ما ليس بالحسن، ولو حدثتك عما يحدث الآن في عصري الذي أعيش فيه، وهو كما تعلمين. يجيء بعد عصرك أنت بخمسة عشر قرنا، أقول إني لو حدثتك عما يحدث في عالمي اليوم، من جرائم هي أبشع الجرائم، يصدر فيها مقترفوها عن أسمى المعاني، إذ يصدرون عن العقيدة الدينية كما صورت لهم وتصوروها، أو عن روح وطنية، أو غير ذلك من الدوافع النبيلة في ذاتها، لكنها كثيرا ما توضع في غير مواضعها الصحيحة فيكون ما يكون، لو حدثتك عن ذلك لما صدقت أذنيك! ويكفيني أن أذكر لك طرفا مما يحدث في بلد عربي حبيب، هو لبنان، فهل سمعت يا هيبا شيا في عصرك وقبل عصرك عن بلد ينتحر كله باسم الدين؟ إنك لو أمعنت النظر في مأساة لبنان، لرأيت أن كل شاب ممن يحملون السلاح، ويلقون بالقنابل، إنما هو ينطوي على معنى من الإيمان أو من الوطنية، أو من الانتماء، لو أخذته مجردا وحده، وجدته معنى شريفا، لكنه وضع في سياق مغلوط فأصبح شيئا آخر، لم تسمع الدنيا بأبشع منه، ثم انظري إلى ضرب آخر من الانتحار الجماعي، في الحرب بين بلدين مسلمين يريد أحدهما أن يفني الآخر، وانظري إلى ما يفعله الجيش الجمهوري في إيرلندا، يستحلون التقتيل والتخريب مدفوعين في ذلك بمزيج من الدوافع الوطنية والدينية، وأما ما يحدث بدوافع السياسة في يومي هذا، فقولي عنه ما شئت لأنك لن تعرفي كيف تبالغين في القول، حتى إذا تعمدت المبالغة، لأن الواقع في جرائم السياسة يفوق كل خيال، حتى بين أبناء الوطن الواحد، ومكمن النكبة في جرائم السياسة، هو في الخلط بين فكرة الغايات وما يؤدي إليها من وسائل؛ إذ يصور الجنون القاسي لأصحابه، أنه ما دامت الغاية شريفة، فكل وسيلة هي بعد ذلك جائزة، حتى لو كانت تلك الوسيلة هي أن تعذب إنسانا من البشر، فضلا عن أن ينال التعذيب جماعات من مواطنيك، قد يعدون بعشرات الألوف أو بمئاتها.
أتعرفين يا هيبا شيا ماذا حدث بالأمس؟ لقد كنت قد ذكرت منذ قريب عن تعذيب الطغاة لشاب عربي، وأن عيني قد دمعتا حين قرأت النبأ؛ لأنني إذ كنت أقرؤه، تخيلت أني هو ذلك الشاب فيما لقي من إهانة وهوان على أيدي أعدائه، فجاءني كتاب من مؤلفه، ومع الكتاب خطاب فيه بضعة أسطر قليلة تشيع فيها نبرة السخرية من رجع تدمع عيناه لحادثة كهذه، وحوله ما هو أفجع وأبشع مما لقيه ألوف المواطنين من صنوف التعذيب، والكتاب المرسل هو سجل لبعض ما عاناه مؤلفه، أو ما شهد غيره وهم يعانون، وهذا هو الكتاب في يدي، أقرأ عليك صفحة واحدة من صفحاته، لتسمعي إلى أي حد بعيد يمكن أن تذهب قسوة مواطنين بمواطنيهم، تحت لواء «الأهداف الوطنية العليا»، فاسمعي، ولن أقول لك متى كان هذا ولا أين؟
قررت إدارة السجن ذات يوم ضرب جميع المعتقلين، فأصدر قائد السجن أمرا بصرف خمسين عصا لكل معتقل، احتفاء بذكرى ... ولقد نفذت فينا العقوبة بصورة مخزية، فقد أمرنا جميعا بربط عصابات على أعيننا، ثم الحبو على أرجلنا وأيدينا، شأننا شأن القرود والكلاب، وأمرنا بالزحف هبوطا على درجات السلم إلى ساحة السجن، ثم طرحنا على ظهورنا، وأمرنا برفع أرجلنا لنتلقى تحية الذكرى.
يسأل القرآن الكريم عن الموءودة إذا سئلت، بأي ذنب قتلت؟ وعلى هذا الضوء الهادي، نسأل عن الذبائح البشرية في أرجاء العالم كله اليوم، بأي ذنب ذبحت، وعن المعذبين في معتقلات العالم المتخلف وسجونه، يلقون من التعذيب ما يشيب له الولدان، بأي ذنب عذبوا، وسيكون الجواب في هذا كله هو أنهم أصحاب رأي وعقيدة، وبعد هذا ترانا إذا صرخنا بكل ما تحتمله الحناجر من صراخ، دعوة للناس أن يراعوا حقوق الإنسان، قيل لنا في سخرية العابثين: ما الجديد في الدعوة إلى حقوق الإنسان، هذا شيء نعرفه من زمان، وهو مسطور في تراثنا، فكأنما يطلب من الجائع ألا يشكو من الجوع؛ لأن أسماء الطعام مكتوبة في الكتب.
أمسكت عن حديثي إلى هيبا شيا، لأنني لم أعد أرى صورتها ماثلة أمامي، وإذا بصوتها يسألني: حدثني عما كان يدور في خواطرك، عندما استدعيتني من مخزون الذاكرة، فلقد قلت لي لحظة ظهوري، إنك كنت تفكر في رجل الشارع، فكان هذا الخاطر عن رجل الشارع هو الذي شدني من مخبئي، فما علاقتي برجل الشارع حتى ليكفيك أن تذكره فأستيقظ في ذهنك وأنجذب إلى وعيك؟
أجبتها قائلا: لا عليك من هذا، وإذا شئت الحق ، فالصلة بينك وبين رجل الشارع لم تكن عندي، بل سمعتها تتردد على ألسنة زملاء أعزاء، فهم الذين ربطوا بينك وبين رجل الشارع.
قالت: كيف؟
قلت: ألست موصولة بالفلسفة حتى لقد ذبحت من أجلها؟ فذكرك يذكر بالفلسفة، وذكر الفلسفة عند الزملاء الأعزاء يذكر برجل الشارع، وهم يقولون في ذلك إن رجل الشارع يعيش «الفلسفة»، إذن فهو فيلسوف مع الفلاسفة، وينتج عن هذه الرابطة ألا نعلم الفلسفة إلا ورجل الشارع في أذهاننا. هذا ما يقوله الزملاء الأعزاء.
قالت هيبا شيا: لكنهم وقعوا في خلط شديد، أليس كذلك؟
قلت: نعم، لقد خلطوا بين أطراف الموقف خلطا لم يكن يجوز الوقوع فيه؛ فالناس «يعيشون الضوء» و«يعيشون الصوت» و«يعيشون الكيمياء» و«يعيشون النبات» ... نعم إن هذه الأشياء كلها تقع في صميم حياتهم اليومية، لكن أحدا لا يجرؤ على القول إنه بناء على ذلك يجب أن يكون لرجل الشارع مشاركة في علم الضوء، وفي علم الصوت، وفي علم الكيمياء، وفي علوم النبات والحيوان، وحقيقة الأمر هي أن الطريق بين رجل الشارع والعلوم (ومن بينها الفلسفة إبداعا ودراسة) هو طريق صاعد هابط، بمعنى أن موضوعات العلم إنما تأخذ مادتها مما هو واقع، ثم تصعد العلوم بهذا الواقع إلى مستوى الدراسة النظرية التي لا يضطلع بها إلا العلماء، ثم تهبط نتائج تلك الدراسة العلمية إلى دنيا التطبيقات العملية، أي إلى الدنيا التي يعيش فيها رجل الشارع، فنحن إذ ننادي بوجوب أن تأخذ الفلسفة في اعتبارها دراسة الأفكار الشائعة في دنيا الناس، محاطة بالغموض، فيكون من واجبات دارس الفلسفة أن يتناولها بالتحليل والتوضيح، لا نعني بذلك أن يشارك رجل الشارع في الدراسة والتحليل، العلماء وحدهم ينتجون العلم، ورجل الشارع يستخدم في حياته العملية ما أنتجوه.
अज्ञात पृष्ठ