جلست مكاني وحيدا ممتلئ النفس من هيبة هذا الغار الذي أوى إليه رسول الله وصاحبه نجاة بنفسيهما من قريش الظالمين، ومحت ظلمة الغار آية الزمن أمام بصيرتي وتمثل لي اللاجئ العظيم في مجلسه هنا بهذه البقعة متوجها بكل قلبه إلى ربه يناجيه ويدعوه أن يصرف عنه كيد عدوه، وينقضي النهار وهو في مناجاته ودعواته وصلواته مطمئن إلى ربه واثق من نصره، وصاحبه إلى جانبه مطمئن بطمأنينته، أما قريش بمكة ففي حيرة من أمرها، كيف استطاع محمد الفرار؟ فهي في حوار دائم تلتمس الرأي للعثور به وقتله، وعبد الله بن أبي بكر يقف على ما يأتمرون ويدبرون، وكان عبد الله قد عرف من أبيه حين الهجرة من مكة أنه سيلجأ مع النبي إلى غار ثور، فكان إذا جن الليل ينطلق إلى الغار فيقص على محمد وعلى أبيه ما رأى وما سمع، وينطلق عامر بن فهيرة مولى أبي بكر بأغنامه فينال الرجلان من ألبانها ولحومها طعام يومهما، ثم يعود عبد الله بن أبي بكر ويعود عامر بالقطيع وراءه ليعفي على أثره، ويعود اللاجئان إلى عزلتهما بالغار والله معهما يسمع ويرى.
وقريش ما تنفك تأتمر وتدبر، فقد ذهب فتيانها الجلداء الموكلون بمحمد وقتله إلى كل ناحية مما حول مكة؛ ذهبوا إلى الشمال حاسبين أنه مسارع ليلحق بمن سبقه من أتباعه المسلمين إلى يثرب فلم يقفوا له على أثر، وشرقوا وغربوا وتيامنوا وتياسروا، وقصاصو الأثر يحاولون أن يعرفوا أي طريق سلك فتذهب محاولتهم هباء، فليذهبوا إذن إلى الجنوب من ناحية اليمن، وإن كان سلوك محمد هذا الطريق مما لا يرد بالخاطر، وذهبوا إلى الجنوب وتسلقوا من الجبال ما تسلقوا وصعدوا ثورا واقتربوا من الغار الذي أوى الرجلان إليه، وكانوا مع ذلك لا يميلون إلى الظن بأنهم سيصادفون من النجاح في الجنوب أكثر مما صادفوا في غيره من النواحي، وكان على مقربة من الغار راع لم يلبثوا حين رأواه أن سألوه: هل رأى محمدا أو أبا بكر؟ وهل عرف أين ذهبا؟ وأجاب الراعي: قد يكونان بالغار وإن لم أر أحدا أمه.
وسمع الرجلان هذا الحديث وسمعا وقع أقدام الفتيان وهم يتقدمون إلى ناحية الملجأ الذي تحصنا به، وسرت رعدة الخوف في عروق أبي بكر لما سمع، فأمسك أنفاسه واقترب من محمد وألصق نفسه به وقد أيقن أنهما مأخوذان لا محالة بالتلابيب فمسوقان إلى مكة أو مقتولان دونها، أما محمد فبقي في سكينته ملتزما الصمت متوجها بقلبه إلى ربه واثقا من أنه لن يصيبه أو يصيب صاحبه مكروه، وتقدم أحد الفتيان حتى كان عند فوهة الغار، فلو أنه حدق بعينيه اللتين اعتادتا الأبعاد واعتادتا الظلام لرأى الرجلين، ولنادى أصحابه فأمسكوا بخناقهما، وبصر به أبو بكر فتصبب من شدة خوفه عرقا وازداد بالرسول التصاقا، ولم تزايل محمدا سكينته ولم يزايله اطمئنانه إلى ربه، ودار الفتى حول الغار وتلفت يمنة ويسرة، ثم عاد أدراجه، وسأله أصحابه: ما لك لم تنظر في الغار؟ فهز كتفيه وأجاب: إن عليه العنكبوت من قبل أن يولد محمد!
تمثل لي هذا المشهد كله وأنا مكاني بالغار، وبلغ من امتثالي إياه أن كدت أسمع حديث المطاردين مع الراعي وأرى الفتى كما كان يراه أبو بكر، وامتلأ قلبي رعبا من هول ما أرى وأسمع، وشعرت بصيحة تكاد تنطلق من صدري وتنفرج عنها شفتاي وكأني أهيب مستغيثا بالذين يطاردونني: على رسلكم! فها أنا ذا مسلمكم نفسي ورفقا! وما عسى أن أصنع وهذا مدركي ثم قاتلي لا محالة؟! فلعل لي في التضرع والاستغاثة من الموت منجاة! وإن نجوت بعد هذه المغامرة فمن ذا يلومني على الإذعان؟ هذا منطق إنساني لا غبار عليه، لكن الفتيان الجلداء لا يطاردونني بل يطاردون محمدا عبد الله ورسوله، ومنطق محمد ليس كمنطقنا؛ لأن روحه ليس كروحنا وإن كان بشرا مثلنا، وخيل إلي أني انتحيت ناحية من الغار وأني أشهد فيه محمدا وصاحبه، ما أشد أبا بكر جزعا! ها هو ذا يرتعد كأن به الحمى، وها هما تان شفتاه تتحركان كأنما يريد أن يقول شيئا، أما محمد فأحيط بهالة من جلال أفاء الله بها عليه سكينته، فليس يهتز لشيء مما حوله، وكأنما يطارد الفتيان شخصا غيره، وطال بي ما أرى، ثم تحركت شفتا أبي بكر فهو يهمس في أذن صاحبه: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا.» وأسر الرسول في أذنه: «يا أبا بكر، ما ظنك في رجلين الله ثالثهما؟!» وفي هنيهة أضاء وجهه نور لألاء، ثم تحركت شفتاه بما أسمع أبا بكر قوله: «لا تحزن إن الله معنا.»
ووجمت حين سمعت هذه الكلمة وحدقت في معالم أبي بكر فإذا به زايله الروع وعاودت السكينة نفسه، ومم عسى أن يخاف والله معه؟! إن الفتيان ليتحاورون على مقربة من الغار، ثم يحاول بعضهم أن يتقدم نحوه، فيردهم صاحبهم الذي دار حوله ويدعوهم أن ينتشروا في أنحاء الجبل لعلهم يلقون نجاحا، ويسمع أبو بكر هذا الحوار فلا يعادوه شيء من الروع الأول، ولا تزايله سكينته؛ لأنه أنس إلى صاحبه وأنس إلى ربه، ويتقدم هذا الفتى الذي رآه أبو بكر منطلقا إلى شعاب الجبل ويتبعه أصحابه، وتبعد بهم خطاهم عن هذا المكان حتى لم يبق من أثرهم نبأ، فيتنفس أبو بكر الصعداء، ويصيح رسول الله: «الحمد لله، الله أكبر.»
آن لي أن أدع مجلسي بالغار بعد أن رأيت هذا المشهد التاريخي الفذ، فامتلأت نفسي من رؤيته إلى غاية ما تمتلئ النفس مهابة ورهبة، هذان رجلان يواجهان الموت ولا يخافانه ثقة بأن الله معهما، والله مع من وثق به، ومن لم يخف الموت في سبيل الله عنت له الحياة فملك زمامها، أية نفس مطمئنة هذه النفس الكبيرة التي لا تعرف غير الله ولا تثق إلا به ولا تخشى شيئا في سبيله؟! وأية أسوة أكبر من هذه الأسوة يضربها النبي العربي للناس في جميع الأمم ليعيشوا أعزة كراما، فيعيشوا بذلك كما يجب أن يعيش الإنسان، وكما أمره الله أن يعيش ما أبقى له الأجل على حياة؟!
وخرجت من الغار إلى القمة، فألفيت أصحابي جميعا يستريحون إلى فيئها، وتناولنا أقداح الشاي، وقصصت لهم بعض ما مر بخيالي وأنا بالغار، قال أحدهم: وكيف تمثل لك موقفهما بعد انصراف الفتيان عنهما إلى أن غادرا ملجأهما؟ كم أقاما بالغار بعد ذلك؛ يوما أو بعض يوم أو أكثر أو أقل؟ فكتب السيرة لا تحدثنا عن ذلك فيما قرأت، وكل ما تحدثنا عنه أنهما أقاما بالغار ثلاثا حتى خمدت عنهما نار الطلب، فلما سكت الناس عنهما أتاهما عبد الله بن أريقط ببعيريهما اللذين استأجرا وببعير له، فسلك بهما إلى يثرب طريقا غير الطريق الذي ألفه الناس، أفما دار بخاطركم كم مر بين انصراف الفتيان ومجيء الإبل؟
لم أكن قد فكرت في هذا ولا عنيت به، ولست أدري هل فكر غيري فيه، لكني مع ذلك أجبت: أحسبهما لم يطل بهما المكث بالغار بعد أن مرت بهما هذه الساعة العصيبة التي تمثلت لي وأنا به، فهؤلاء الفتيان لم ينحدروا إلى الجنوب ميممين ثورا حتى بدا لهم اليأس أن يجدوا محمدا في غير الجنوب من النواحي، فلما عادوا من بحثهم بخفي حنين أدرك اليأس قريشا وألقت سلاحها، وما لبث عبد الله بن أبي بكر حين رأى ذلك أن أخبر به النبي وصاحبه، وأكبر ظني أن ذلك حدث أمسية اليوم الذي عاد الفتيان بالخيبة فيه إلى أهلهم بمكة، وأن عبد الله استصحب أخته أسماء وأسر إلى ابن أريقط أن يتبعهما ملث الظلام، وأن هؤلاء جميعا التقوا قبل الفجر بأسفل ثور، فلما تحمل محمد وأبو بكر وسارا في طريقهما ميممين الشاطئ عاد عبد الله وأخته إلى مكة ولم يفطن إلى عودتهما أحد.
لم يعن أكثر الحاضرين بالإنصات إلى هذا الحديث، ولم يعنهم أن يكون الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام - قد ترك الغار بعد انصراف الفتيان عنه بساعة أو بيوم أو بثلاث ليال، حسبهم أنه
صلى الله عليه وسلم
अज्ञात पृष्ठ