وخجلت من تفكير شابه الغرور الإنساني، واستغفرت الله منه، وعدت إلى تفكير أكثر سموا، عدت إلى التفكير في موقف الرسول من الكعبة في حجة الوداع؛ في موقف هذا البشير الهادي يحف به مائة ألف أو يزيدون وهم يستغفرون الله جميعا ويتوبون إليه، وهو على رأسهم يعلمهم مناسك حجهم، وهو ليس دونهم استغفارا وخضوعا لله، مع ما يعلمه من أنه رسول ربه، وأنه بلغ رسالته، وأدى أمانته، واحتمل في سبيل ذلك ما تنوء به العصبة أولو القوة، لكنه يعلم - كذلك - أنا أبدا في حاجة إلى مغفرة الله لنا ورضوانه عنا، وأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنه - جل شأنه - له الأمر وهو العفو الغفور، فكرت في هذا الموقف الأخير للرسول وطوافه بالبيت وطواف مائة ألف من المسلمين وراءه وهو مع ما جاوز الستين يسرع في أشواط الطواف الأولى والمسلمون يسرعون إسراعه، وهو يذكر وهم يذكرون يوم طاف في عمرة القضاء ومعه ألفان، وهو يسرع ويقول لأصحابه: «اللهم ارحم امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة.» والمشركون من أهل مكة ينظرون من أعلى الجبال إلى أولئك الذين زعموهم ضعافا أرهقتهم يثرب وأرهقتهم الحروب، فإذا هم البأس والقوة والعزيمة الصادقة بإذن الله.
كان أهل مكة ينظرون إلى المسلمين في أثناء طوافهم وراء نبيهم في عمرة القضاء، أما في حجة الوداع فكان أهل مكة قد أسلموا وقد أصبحوا مع سائر العرب بنعمة الله إخوانا، وكانوا يطوفون بالبيت مع الطائفين، ويذكرون الله مع الذاكرين، وقد هداهم الله إلى الدين القيم، وأنجاهم من ضلال الشرك ومذلة الوثنية.
ألا إن هذا البيت العتيق لينطوي من أسرار التاريخ وعبره على قدر يعادل ما يستكن في جوفه هيكلا للتوحيد من مهابة وجلال، وإن هذا الجو الذي يبدو صامتا حوله لمليء من أصداء العبادة بما لو انفرج عنه كما تنفرج أسطوانة الحاكي عن الأصوات المسجلة عليها لدوت الأرض كلها مؤمنة مقدسة منادية نداء يسمعه أهلها وأهل السماء جميعا: لا إله إلا الله والله أكبر.
وآن لي أن أهبط من الكعبة إلى المطاف وإلى المسجد، فودعت السادن وودعني بكلمات كلها الرقة والظرف، وقصدت مذ هبطت إلى حجر إسماعيل وإلى مقام إبراهيم فصليت فيهما، وغادرت المسجد الحرام بعد ذلك ممتلئ القلب روعة وإكبارا وتعظيما، وكل ما حولي يدوي في أذني بذكر الله والتسبيح بحمده: ربنا لك الحمد.
آثار مكة
قل من زوار مكة من يعنى بحاضرها، وما يجيش بخاطر أهلها من رجاء في هذا الحاضر وأمل في المستقبل، فهم يقصدون إليها ليحجوا بيت الله كيما يغفر لهم ربهم ذنوبهم ويطهرهم من ماضي حوباتهم، وبيت الله فيها هو لذلك مثابتهم، فإذا أقاموا بها التمسوا مزيدا من المثوبة بزيارة ما بها من آثار النبي وأهل بيته والسلف الصالح عليهم رضوان الله أجمعين؛ من ثم كانت نفوسهم لا تتعلق مما في مكة إلا بما يتصل بالماضي البعيد ابتغاء ثواب المستقبل في الآخرة، فإذا عناهم من أمر مكة غير ذلك شيء فما يبتاعونه منها تبركا به، وحبا في ثواب ينالهم أو ينال من تهدى إليه هذه البركات من ذويهم والمقربين منهم.
ولقد أردت أن أقوم بزيارة هذه الأماكن التي يضفي أهل مكة عليها ثوب التاريخ لعلي أجد فيها من الفائدة العلمية ما يشيد بذكرى الذين شادوا المساجد والذين يرقدون الرقدة الأخيرة في المقابر، وتحدثت في ذلك إلى غير واحد من شبان مكة ومن أولي الرأي فيها، ولشد ما كان عجبي لقولهم: إن هذه الآثار لا تجد سندا ثابا من التاريخ، وإن المؤلفين مختلفون على أكثرها إن لم يكن عليها جميعا ... وبلغ بعضهم في تأكيد رأيه أن قال: إن ما يروى عما سوى الكعبة وما يحيط بها بالمسجد الحرام وعن حراء وثور كله رجم بالغيب، وهو إلى القصة أدنى منه إلى أنباء التاريخ، وأردت أن أمحص قولهم، فرجعت إلى بطون ما استطعت الرجوع إليه من الكتب، فلم أجد فيها ما يطمئن إليه السند العلمي الصحيح، وإن روى بعضهم من الأنباء المتواترة عن بعض هذه الآثار ما يجعل الإنسان يتردد بين صحة النبأ وبطلانه ترددا ينفي الثبوت العلمي، ولكنه لا يثبت النفي العلمي كذلك.
وأفضيت إلى مضيفي بقصدي، فأنبأني أن الشيخ عبد الحميد حديدي خير من يرشدني إلى ما أقصد إليه، والشيخ عبد الحميد حديدي يعمل الآن مع الشيخ عباس قطان في أمانة العاصمة، وكان قبل ذلك قد اشتغل بالتعليم في جدة، وبالقضاء عند أدنى حدود الحجاز من اليمن، كما تثقف بالأسفار إلى الهند وجاوة حين شبت نيران الثورات والحروب بالحجاز في العهد الأخير، ولم أسأله عن سنه، ولكنه يبدو في جوار الخمسين، وهو رجل أسمر اللون كسمرة العرب، مديد القامة نحيفها، لا يلبس العقال بل يكتفي «بالصمادة» على عادة أهل العلم في بلاده، وكانت معرفتي به في هذا اليوم مقدمة صحبة اتصلت طوال إقامتي بالحجاز إلى يوم سفري من ينبع إلى مصر، ولقد أنست إلى هذه الصحبة واطمأننت إليها كل الاطمئنان، وهل كنت أطمع في أكثر مما كان عبد الحميد عليه من سعة الفكر، والبعد عن التعصب، وعدم التقيد إلا بموجب العقل، ومن تبادله الرأي لذلك معي تبادلا حرا في كل ما يعرض لنا حين نقف أمام مشهد نمحص ثبوته التاريخي أو موضعه من أنباء حياة الرسول، وأبدى الرجل من هذا اليوم الأول اغتباطا بصحبته إياي، فشكرته عليه ولن أنساه له.
وكان الشيخ عبد الحميد حديدي يشاطر شبان مكة رأيهم أن ما بمكة من الآثار ليس له من التاريخ سند ثابت على رغم كثرته؛ ولعل ذلك هو الذي جعله لا يبدي كبير اهتمام بزيارتي وإياه هذه الآثار أول الأمر، وخاصة زيارة ما لم يكن منها وثيق الاتصال بحياة محمد، ولعل سببا آخر دعاه إلى ذلك، فلقد كان لكثير من هذه الآثار فيما مضى قيمة فنية بما أقيم عليه من قباب، وما شيد لذكره من مساجد ، أما اليوم - ومذ حكم الوهابيون بلاد العرب - فقد هدمت هذه الآثار الفنية وامحت رسومها، فهم أعداء ألداء لكل ما يحسبونه يورث الشبهة في توحيد الله - جل شأنه، وهم يرون في المقابر وزيارتها وإقامة القباب عليها إشراكا يجب القضاء عليه، وهم يرون فيها - على الأقل - منكرا تجب إزالته.
وما عسى أن تغني مثلي زيارة آثار لم يبق منها اليوم إلا ما يحفظه الناس أو يروونه عنها؟! وأية فائدة في أن أذهب إلى مقابر المعلاة مثلا حيث قبر خديجة وقبور أجداد النبي وأعمامه، وقد سويت هذه القبور بالأرض وأصبح ما يرويه حراس المقابر عنها أشبه شيء بحديث خرافة، ولم يخف عبد الحميد ما ساوره من ذلك، ولم يخف أسفه على زوال القباب الجميلة التي كانت مزارا لعشرات الألوف من الحجاج، والتي كانت تدر لذلك على مكة الخير الوفير، لكنني أبديت من الحرص على زيارة هذه الآثار ما أزال تردده، ولم يلبث حين تبادلنا الحديث بعد زياراتنا في اليوم الأول أن أقبل يضع خطط تجوالنا بهمة لا تعرف الملل.
अज्ञात पृष्ठ