ومن أسباب الانهيار في تفكير التواكل ما تم الاتفاق عليه بين حكومة مصر والحكومة العربية السعودية في أمر الأرزاق التي تجرى من مصر إلى الحجاز غلة لأوقاف الحرمين، وفي أمر الأموال التي ترسلها حكومة مصر إلى الحجاز، فقد كانت هذه الأرزاق والأموال توزع فيما قبل الاتفاق صدقات ضئيلة القيمة على أهل مكة وعلى أهل المدينة، أما بعد الاتفاق الذي تم عام 1936 فقد أصبحت هذه الأرزاق تجمع لتنفق في أعمال ذات فائدة عامة، كتعبيد الطرق، وتعمير المنشآت الإسلامية في البلاد المقدسة، وقد كان الناس هناك يكتفون بالصدقات عن مزاولة الأعمال لإقامة حياتهم، فإذا انقطعت هذه الصدقات أو قلت فصارت لا تكفي حاجات العيش، اضطر أهل البلاد للعمل، وحلوا بذلك محل العمال المصريين وغير المصريين ممن يجاء بهم لإتمام هذه الأعمال.
وسيكون الاتفاق الذي تم بين مصر والحكومة العربية مثلا لغير مصر من الأمم الإسلامية التي تجري الأرزاق إلى الأماكن الإسلامية المقدسة؛ ومن ثم لا يبقى أمام هؤلاء الكسالى إلا أن يعملوا، غير مكتفين بما يصلهم من صدقات الحجاج، وأغلب ظني أن الحكومة العربية ستنظم هذه الصدقات كذلك وتضرب على أيدي المتسولين، وتعمل جهدها للقضاء على حالة محزنة تثير اليوم إشفاق الكثيرين، ولكنها تثير إلى جانب إشفاقهم الزراية بمن يقيمون في موطن الرسول العربي أعظم داع للسعي والعمل، وللإخاء في السعي والعمل، هنالك تتغلغل فكرة العمل في حياة مكة وحياة الحجاز، على أنها الفكرة الإسلامية الصحيحة، بعد أن كانت تعتبر مخالفة لروح الإسلام وتعاليمه.
هذه لمحات سريعة تشف عن العوامل التي تدفع مكة نحو الحياة الحديثة، وثمة عامل آخر لا يظهر له أثر وإن كان يجول بأخلاد الكثيرين، كنت أتحدث إلى طائفة من أهل مكة فيما يستطيع المسلمون القيام به من إصلاح الأماكن المقدسة كتعبيد الطرق بين جدة ومكة، وبين مكة وعرفات، وبين جدة والمدينة، وتنظيم المياه الصالحة للشرب في مناسك الحج جميعا، وتنظيم المضارب لنزول الحجاج بها، فأشار واحد من ذوي الرأي من أهل مكة بالرجاء أن يتناول الإصلاح إنشاء جامعة بالطائف يتعلم فيها أبناء البلاد العلوم الحديثة، وقد اختار الطائف للتخلص من اعتراض المعترضين على تعليم العلوم الحديثة بمكة، وفي رأي هؤلاء أن تكون مقارنة المذاهب الإسلامية بعض ما يدرس في هذه الجامعة.
وهذا روح علمي حر لمحته في محادثاتي مع كثيرين، فإذا تحقق هذا الأمل وأنشئت هذه الجامعة بالطائف أو بمكة - وأفضل أن يكون إنشاؤها بالحل من ظاهر مكة - وإذا ساهم علماء المسلمين من مختلف الأقطار بنصيب في تفقيه أبناء البلاد، فسيكون ذلك إيذانا بإسراع التطور نحو الحياة الحديثة في صورة من هذه الحياة تتصل بماضي بلاد العرب وتتصل اتصالا وثيقا بروح الإسلام الصحيح، وتجعل من مكة مقصد العلماء وذوي الرأي، وموضع الأفكار التوفيقية المستندة على أصول ثابتة من الكتاب والسنة، ومن العقل والمنطق، والقمينة بأن تحدث في أنفس أربعمائة مليون من المسلمين وفي حياتهم العقلية والروحية من الأثر ما لم يحدث مثله منذ مئات السنين.
لست أدري متى يتحقق هذا الأمل، ورجائي أن يكون هذا الكتاب باعثا على الدعوة إلى تحقيقه، على أن قيامه في نفوس الذين يعملون لتطور الحياة العربية ويدعون إلى اتصالها بحياة العصر هو لذاته عامل من العوامل الكثيرة التي تهيئ لهذا التطور، والتي تجعل مكة اليوم على أبواب نهضة علمية استجنت فكرتها في نفوس بنيها عشر سنين أو نحوها، قد آن لها أن تؤتي ثمراتها وأن يبدأ بتحقيق أغراضها.
واعتقادي أن ليس بين المسلمين من ذوي الرأي أحد إلا يرجو أن يرى هذا التطور يسرع إلى هذه البلاد المقدسة، وما أظن الأمر يقف منهم عند الرجاء، بل أحسبهم جميعا على استعداد لمد يد المعونة والعمل لنشر الدعوة كي تتسع دائرة هذه المعونة.
يوم تمتد أيدي المسلمين متصافحة من مختلف أقطار الأرض للتضافر على هذا العمل العظيم بصدق وإخلاص، يومئذ تتهيأ مكة كرة أخرى لتضيء العالم بنور الحق الذي أشرقت منها شمسه يوم بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وما أشد تعطش العالم اليوم إلى هذا النور العظيم!
يومئذ تصبح سنتنا جميعا سنة النبي العربي، وتوحيدنا الله كتوحيده، وسنة النبي تجتمع في هذا الأثر: المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة.
والتوحيد الحق ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.
إذا اجتمعت هذه السنة إلى هذا التوحيد، وانبعث نورهما كرة أخرى من منزل الوحي الأول، فقد آن لمنطق العقل وإيمان القلب أن يلتقيا في الله وفي سنته التي لا تبديل لها، وآن للعلم - بأحدث ما اهتدت إليه بصائرنا - أن يكون سلاحنا إلى الحقيقة، وآن للمعرفة وتوق النفس الدائم للتزيد منها، أن تزيد آفاق العلم سعة وقواعد الإيمان تثبيتا، وآن للإنسانية أن تسير في ظل التسامح والإخاء إلى الكمال الذي تنشده من أقدم العصور فلا تهتدي إليه؛ لتنازع العقل والقلب على تولي زمامها وتوجيهها الوجهة التي يحسب كل منهما أنها أدنى إلى هذا الكمال.
अज्ञात पृष्ठ