لعل هذا الرأي أدنى من غيره إلى روح الإسلام وحكمة الله فيه، فهذا الدين كله البأس والقوة على الحياة، وكله النظام الذي يضاعف هذه القوة أضعافا مضاعفة، ولقد جمع الإسلام بين النظام والحرية ما لم يجمع بينهما دين غيره، هو يصل بالحرية إلى غاية حدودها، وبالنظام إلى غاية حدوده، فلا عبادة إلا لله، والأمير ورجل البادية سواسية في التزام حدود الله، ومن يتعد منهم حدود الله فقد ارتكب إثما وبهتانا عظيما، هم في هذا سواء وإن تفاوتوا في الثروة وفي الجاه وفي كل مظاهر هذه الحياة الدنيا، والحرية أعز ما يحب الإنسان لنفسه، ويجب أن تكون أعز ما يحب لأخيه إذا أراد أن يكمل إيمانه. وحرية الفرد ملاكها قوة الجماعة، ولا قوة لجماعة إلا بالنظام يبلغ من دقته أن يكون كنظام جسم الفرد في تألف ذراته وفي اتساق عملها جميعا تمام الاتساق، كل اضطراب في هذا الاتساق يفسد حياة الفرد ويجعله عرضة للأمراض والعلل، وكل اضطراب في نظام الجماعة يضعفها ويجعلها عرضة لتسلط الغير عليها ولتحكمه فيها.
ومظهر النظام في الإسلام بالغ غاية الدقة من غير أن يجني مع ذلك على الحرية أو أن يمسها، وهو يقوم على أساس من المساواة الصحيحة والتعاون الصادق ، ذلك شأنه في أركان الإسلام جميعا، في صلاة الجماعة، وفي الصوم، وفي الحج، ومظهره في الحج أوضح جلالا وأعمق في النفس أثرا، واجتماع المسلمين بمنى وإلقاؤهم الجمرات ختام شعائر الحج بعد الوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، أما وغاية الحج اشتراك المسلمين من أقطار الأرض في التفاهم على منافعهم واشتراكهم في ذكر الله، فيجب لنجاح هذه الغاية أن يبلغ نظامهم أثناء الحج غاية الدقة، ويجب لذلك أن يكون إلقاء الجمرات والتعارف والتشاور خيرا مما هي اليوم نظاما.
والمسلمون يشعرون اليوم بواجبهم في تحقيق هذه الغاية أكثر مما كانوا يشعرون به من قبل، دعا الشباب العربي السعودي ذوي المكانة من الذين جاءوا يؤدون فريضة الحج من أهل الأمم المختلفة إلى اجتماع بمنى للتعارف والتشاور، وقد اجتمعنا في الموعد المضروب، وجاء مجلسي بين هندي وتونسي، وبادل الداعون ضيوفهم التحيات، وأحدثوا بينهم من التعارف ما يستطاع إحداثه في مثل هذه الحفلة، ثم دعوا بعضهم ليتحدثوا إليهم، وكم تمنيت لو كان بين من يؤدون فريضة الحج من أهل المكانة والرأي والكلمة المسموعة في بلادهم من يحضر مثل هذا الاجتماع؛ لتتم حكمة الحج؛ ولتكون مكة مقرا لعصبة الأمم الإسلامية تسمع كلمة أهلها، ويكون لهم في العالم رأي معدود. لكن ذوي الكلمة المسموعة ممن حضروا لم يكونوا يمثلون من العالم الإسلامي إلا أقله، ولم يكونوا يقصدون باجتماعهم إلى غاية وراء الاجتماع؛ لذلك ضعف الرجاء في أثر ما ألقوا في هذا الاجتماع من أقوال لم تتعد الدعوة العامة إلى إخاء المسلمين وتحابهم، ولو اجتمع ذوو الكلمة المسموعة لغاية يريدون تحقيقها لكان لاجتماعهم أثر يدوي في العالم كله.
أزمعت الانصراف عن منى عصر اليوم الثالث من أيام النحر، ومررنا بالجمرات فرجمناها، ثم أقلتنا السيارة تؤم مكة، واسترعى «حراء» نظرنا ساعة مررنا به، وأذكرني تحنث النبي العربي فوقه، ونزول أول الوحي وأول الرسالة عليه بعد سنوات من تحنثه، فلما أويت إلى الدار واشتملني مخدعي بها جعلت أفكر: لقد أتم الله لي فريضة الحج، وها أنا ذا الآن بمكة مسقط رأس محمد، أفأغادرها إلى المدينة لأزور قبره ثم أعود إلى وطني؟! ... وأطرقت هنيهة إذ تمثل لي حراء، وامتثلت محمدا فوقه في عزلته، ثم امتثلته يوم الوحي الأول عائدا إلى خديجة يقول: «زملوني زملوني»، ولما تمثل لي في حياته كلها آليت على نفسي أن أبقى لأسير حيث سار؛ ولأتبع خطواته قبل هجرته من مكة وبعد عوده إليها فاتحا، علي أتزود من ذلك بما ينفعني قبل أوبتي إلى قومي، فإذا عدت إليهم عدت وفي يدي قبضة من أثر الرسول.
الكتاب الثاني
البلد الحرام
مكة الحديثة
أشرت لماما إلى ما رأيت بمكة أول نزولي بها، وذكرت دار مضيفي ودار وزير المالية وقصر الملك وصورة عمارتها، ولقد حاولت أن أجد فيها، وفي المنازل التي دعيت أثناء مقامي بمكة لزيارتها، والمنازل التي نزلت بها بضواحي مكة، ما أستشف منه روح عصرنا الحاضر في العمارة أو في نظام الحياة، فعدت من محاولتي مقتنعا بأن مكة القديمة الخالدة ما تزال بريئة من هذا الروح، وإن لم يبق فيها كذلك شيء من الروح العربي القديم مما تحدثنا به تواريخ مكة من عدة قرون.
وغاية ما يستشفه الإنسان من خلال الحياة في أم القرى اليوم، فذلك أن شبابها يصبو بكل وجدانه إلى الحياة الحديثة، وأن هذه الصبوة لم تقم بنفسه إلا بعد أن انفصل الحجاز عن دولة الخلافة بالثورة التي أعلنها الحسين بن علي، والتي يسمون ما تلاها عهد النهضة؛ لذلك لم يبلغ الشباب من أمانيهم شيئا مذكورا، بل بقيت تمثل حياتها خليطا من حياة البلاد الإسلامية المختلفة في المراتب البدائية من هذه الحياة، ولا عجب! فأهلها اليوم هم على الحقيقة خليط من أبناء البلاد الإسلامية قصدوا المدينة المقدسة حاجين، ثم جذبتهم قدسيتها فأقاموا بها، ومنهم من تيسرت له أسباب العيش، ومنهم من ظلوا يعتمدون في عيشهم على الصدقات وعلى معاونة الحاجين في أداء الشعائر.
وصبوة شباب مكة للحياة الحديثة قوية آخذة بنفوسهم تدفعم إلى تتبع ما يكتب ويقال عن هذه الحياة، وإلى التعلق بما يظنونه من صورها وأمثالها، ويبلغ اندفاع بعضهم في هذا السبيل حدا يكاد ينكره ماضي البلد الحرام في العصور القريبة، بل يكاد ينكره حاضره ممثلا في الجيل الذي تخطى الشباب إلى الكهولة، فهذا الجيل ما يزال يفكر تفكير الآباء: يبالغ في تصوير الإسلام لله مبالغة تنعدم معها الإرادة الإنسانية، وينعدم معها الفكر الإنساني، ولا يرى في غير ما قاله السلف شيئا يحترم أو يعار التفاتة، بل يرى في العلوم والفنون الحديثة أفانين من لهو الخيال لا تتصل بالحق أي اتصال جدير بأن يثير عناية الذهن.
अज्ञात पृष्ठ