ويطلق أهل الحجاز على هذه الصخرات اسم الشياطين، فإذا أراد أحدهم أن يدلك على منزل شخص معين من منى قال: إنه إلى جانب الشيطان الكبير، أو على مقربة من الشيطان الصغير، أو بين شيطانين معينين من الثلاثة، وترجع هذه التسمية إلى ما ترويه بعض الكتب عن إبراهيم الخليل - عليه السلام، وأن الله بعث ملكا يريه مناسك الحج حين أمره أن يؤذن في الناس به، وطاف الملك معه بالبيت، وسعى به بين الصفا والمروة، ثم صعد وإياه متجها إلى الجبل، فلما كانا بمنى تبدى الشيطان لإبراهيم يغويه فحذفه إبراهيم بالحصى فولى هاربا، ثم تبدى له كرة أخرى فحذفه فولى، ولما حذفه للمرة الثالثة ولى مدبرا ولم يعقب، وتذهب الرواية إلى أن الشيطان تبدى في كل من هذه المرات الثلاث عند صخرة من هذه الصخرات الثلاث؛ ولهذا أطلق أهل الحجاز اسم الشياطين عليها، وانطلق الملك بإبراهيم من منى إلى المشعر الحرام وسار وإياه حتى بلغا عرفة، هنالك قال له: الآن عرفت مناسكك، وسمي هذا الجبل عرفة أو عرفات؛ لأن إبراهيم عرف عنده مناسك حجه.
والجمرات مناسك منى، والناس يرجمونها؛ لأنها تتقمص الشياطين فيما يقول أهل الحجاز؛ وهم لذلك يرجمونها ناقمين عليها أشد النقمة، ولقد بلغ من نقمة أحدهم أن قذفها بحذائه، وأطلق بعضهم على أحدها «مسدسه» آملا أن يقتل الشيطان بقذيفته، أما وهذه عقيدة الناس فيها فليس طبيعيا أن يلتمسوا البركة منها، إنما يتلمسون البركة من منازل الأنبياء والقديسين فيما ترويه الكتب، كما أنهم يذكرون الله ويتلمسون مغفرته وثوابه في مساجده.
وبمنى مسجدان يقعان في سفح ثبير، وأحدهما أقرب إلى طريق مكة من الآخر، فأما الأول فمسجد الكوثر، وهو مسجد صغير يقوم في مكان يروى أن النبي - عليه السلام - كان به حين أوحى الله إليه سورة الكوثر، والناس يتبركون لذلك بهذا المسجد، ويؤمه كثيرون من الزمنى يتمرغون في ترابه ثقة منهم بأنه يشفيهم من أمراضهم، أما الآخر فمسجد الخيف، وهو أكبر مسجد بين مكة وعرفات بعد المسجد الحرام، وكان أكبر من المسجد الحرام في الصدر الأول من الإسلام.
ومسجد الخيف قديم العهد، حتى لتروي بعض كتب التاريخ أن أربعين أو خمسة وأربعين نبيا صلوا فيه، ويذكر بعضهم حديثا عن الرسول - عليه السلام - أن هذا المسجد هو الذي تبايعت فيه الأحزاب من العرب واليهود على قتال محمد والمسلمين بالمدينة، وأن الأحزاب خرجوا منه لغزوة الخندق ، وبمسجد الخيف صلى رسول الله في حجة الوداع حين مقامه بمنى أيام التشريق، ولا يزال المسلمون يصلون به يوم النحر وأيام الجمرات، فهو وحده الذي يتسع لعشرات الألوف منهم إذ يجتمعون للعبادة والتعارف.
وقل أن يصلي بمسجد الخيف أحد في غير أيام الحج حين تكون الصلاة به سنة يجتمع لها ألوف المسلمين وعشرات ألوفهم؛ وهو لذلك البساطة كل البساطة في عمارته التي لا تزيد على جدران أربعة تحيط بمساحة فسيحة من الأرض، تتوسطها مبلغة - أو «مكبرية» - لصلاة الجمعة أو الجماعة، على أن الجانب المتصل منه بجدران القبلة مسقوف بقباب قائمة على عمد متينة البناء، وبابه الكبير معقود على عمد أربعة عقدا قويا يبعث في الذهن صورة الآثار القديمة، وللمسجد أبواب أخرى يسلك المصلون أثناء الحج طريقهم إليها؛ لأن الباب الكبير لا يتسع وحده في هذه الفرصة لألوفهم الكثيرة.
وإن بمنى لمكانا يثير الذكرى ويستوقف النظر، وإن لم يكن في فسحة مسجد الخيف ولم تكن له عمارة كعمارته، والمسلمون يؤمون هذا المكان أول إفاضتهم من عرفات، وقل من يذكر منهم حين وقوفه أمامه أكثر من أنه منسك من مناسك الحج تؤدى شعائره، ذلك مكان العقبة الكبرى حيث تقوم الجمرة التي يلقيها المسلمون ليتحللوا التحلل الأصغر، هذه الجمرة وعلى مقربة منها مسجد العقبة يثيران في النفس ذكرى البيعتين اللتين تمتا بين أهل يثرب ورسول الله، فمهدتا لهجرته، وكانت بذلك مبدأ الفوز وأذانا من الله بأن يفتح لرسوله وينصره نصرا مبينا.
قل من المسلمين من يذكر هاتين البيعتين حين يلقي الجمرات على صخرة العقبة، أما أنا فوقفت عند العقبة وعدت إليها من بعد كما عدت إلى مسجد البيعة، ووقفت عنده طويلا باحثا عن الشعب الذي احتمى الرسول والمسلمون من أهل المدينة به حين بايعوه، وإن من الواجب أن يذكر المسلمون يوم إفاضتهم وحين وقوفهم أمام جمرة العقبة هذا الموقف الفذ في التاريخ من مواقف النبي العربي، فهو من المواقف التي وجهت التاريخ وجهة جديدة، والتي وجهت الإنسانية كلها إلى النور والهدى.
لا يؤدي الناس أية شعيرة من شعائر الحج بمنى طول يوم النحر ولا صبح غداته؛ إنما يتزاورون يهنئ بعضهم بعضا بالعيد، ويفضي بعضهم إلى بعض بخلجات نفسه، ويذهب كثيرون منهم في صحوة الصباح من ثاني أيام النحر ليشتركوا في تشريفة الملك ابن السعود وفي تشريفة كل من ولديه سعود ولي عهده، وفيصل نائب الملك بالحجاز ووزير خارجية المملكة العربية وأمير مكة.
ولقد ذهبت مع جماعة من أصحابي نحضر هذه التشريفة للملك وولديه، وتشريفة الملك تقع في قصر أقيم له بمنى منذ سنوات قليلة، وفي نعت هذا المكان بالقصر شيء غير قليل من التجوز، فهو أبسط في أثاثه وفي بنائه من أن يسمى قصرا وإن اتسعت أرجاء غرفه، والذين يذهبون لحضور التشريفة ينتظرون قبل الدخول على الملك في خيام أقيمت أمام القصر، وليس في هذه الخيام دفاتر يكتب الناس أسماءهم فيها، ولا يسأل أحد من الجند ولا من حاشية الملك أحدا من الذين قصدوا إلى التشريفة عن اسمه أو جنسه أو أي شيء من أمره، ويقوم الناس من الخيام فوجا بعد فوج دون اعتبار للطوائف أو لغير الطوائف، فإذا بلغوا القصر ارتقوا أربع درجات تؤدي إلى باب هو باب الغرفة التي يستقبل الملك فيها، ويمر الناس به ويحيونه، فيدعو ذوي المكانة منهم إلى الجلوس في المقاعد المجاورة له.
ولم يكن يرضى أول ملكه على الحجاز عن تقبيل أحد يده؛ لما في ذلك من مخالفة عقيدته الوهابية، ومن مخالفة قواعد الإباء والشمم العربية، على أن أهل الحجاز أصروا على تقبيل هذه اليد، فصار في السنوات الأخيرة لا يحول بينهم وبينها، أما النجديون فلا يزالون كما كانوا يهزون يد عاهلهم ويسمونه باسمه ويحيونه بتحية الإسلام، فيقول له أحدهم: كيف حالك يا عبد العزيز؟ فإذا أرادوا المبالغة في التحية أطلقوا عليه لقب «طويل العمر»، ويمر المهنئون بالملك، ويشرب المقربون قهوته النجدية، ويلقي بعضهم أمامه القصائد والخطب، كل ذلك في بساطة بدوية تطأطئ أمامها الديمقراطية إكبارا وإجلالا.
अज्ञात पृष्ठ