وبينا نحن في حديثنا أمسكت السماء فجأة، وذهبت الريح بما فيها من سحب، وصفا الجو، وعادت إلى الثغور ابتسامتها، وأقبل الخادم ينبئنا بأن السيارة بالباب تنتظر، وركبناها وشققنا بها طرق مكة الضيقة وهي تسير الهوينى تتخطى الإبل وهوادجها وشقادفها التي قاربت بنا قصر الملك، هنالك انفسح الطريق، وعظم أملنا في الوصول عما قليل إلى عرفات، على أن السيارة وقفت هنيهة ليملأها سائقها بنزينا، وفي هذه اللحظة رفعت بصري إلى السماء فألفيتها صفوا لم يبق لسحابة فيها أثر، وألفيت القمر لما يكتمل بدرا قد بعث إلى أرجائها من ضوئه الندي ما زاد في صفاء صفحتها بهجة ونورا، وسرحت الطرف عن يميني وعن يساري وفيما أمامي فإذا لجة القمر تغمر سلاسل الجبال القائمة في هذه الأرجاء جميعا متتابعة في اتصال لا يدع للناظر من خلالها فرجة تشف عن شيء مما وراءها، وبدت هذه السلاسل في لجة الضوء أشباحا ضخمة رهيبة جديرة بأن تبعث إلى النفس الخشية منها، ومما يستكن فيها لولا تجرد النفس في هذه الآونة من كل خشية إلا خشية الله، ولولا سمو النفس فوق كل ما في الحياة من آمال وآلام ومخاوف إلا عن الرجاء في رضا الله عمن لبوا نداءه، ومن جاءوا من كل فج عميق رجالا وعلى كل ضامر ليطوفوا بيته ويتموا مناسك حجه.
وانطلقت السيارة في طريق منى تسايرنا جبال العقبة عن يسارنا وطلائع «ثبير» عن يميننا، وفي لحظة غابت الإبل ولم يبق يزحمنا منها قافلة ولا بعير؛ ذلك أنا خرجنا عن طريقنا إلى طريق آخر استحدثته الحكومة القائمة، وخصت به السيارات تنفيسا عن القوافل وعن السيارات جميعا، والقمر في كبد السماء الندية الزرقة بضيائه يلقي على الهضاب الممتدة عن يمننا وعن يسارنا ضوءا يبعثها إلى يقظة الحياة في هجعة الليل، أما فيما أمامنا فقد غلب ضوء السيارة الباهر ضوء القمر الرطب الندي، وجعلنا نصعد فوق السفوح على هون، حتى طالعتنا أضواء كثيرة منتشرة عن يسارنا، تلك أضواء سوق منى يتأهب أصحابها لإفاضة الناس من عرفات بعد غد إليها، ثم مررنا بعد قليل بضوء أقل من ضوء منى دلنا على أنا إزاء المزدلفة، وتابعنا التصعيد في الجبل على هون بين هضاب ورمال انبسطت عنها أشعة اللجين من ساهر السموات، وحاذينا بناء، ذكر أهل مكة أنه مسجد نمرة، بدت بعده أضواء قيل: إنها سوق عرفات، ثم انطلقت السيارة فإذا بنا أمام سهل فسيح ضربت فيه مئات القباب وألوفها، وتلألأت فيه مصابيح النور الأبيض، تلك بطحاء عرفات، وهنا مكان الحج وملتقى الألوف من المسلمين الذين فرضوه على أنفسهم.
وقفت السيارة، وسأل مضيفنا عن مضارب خيامنا، ومن لك بالذاكرة التي تحيط بمكان كل قبة من هذه المضارب التي يخطئها العد في هذه الساعة من الليل؟! بل من لك بهذه الذاكرة في أشد ساعات النهار وضحا؟! وبدأ الغضب يأخذ من المضيف حين لم يسارع أتباعه إلى إجابة سؤاله، لكن جلال الموقف وعذوبة الهواء وصفوه ورقته هدأت من حدة طبعه، وانفتل شاب من ذويه من السيارة يلتمس منازلنا كي يهدينا إليها؛ ولم يطل عنا غيابه.
وألفيت الخيمة التي أعدت لنا قد فرشت ببساط من السجاد، فألفيت عليه فراش النوم، وخرجت أسرح البصر فيما حولي، خرجت في لباس إحرامي خفيفا فرحا، نشيط النفس، ممتلئ الفؤاد حبورا وجذلا، يا لرقة هذا الهواء! وجمال هذا القمر! وبهاء هذه الساعة الفذة التي سقطت فيها عن الروح كل الحجب، وتجلى فيها أمام البصيرة نور الخالق العظيم! لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ... أولا يجمل بي أن أتقدم بين هذه المضارب لأرى ألوف المحرمين مثلي فأزداد برؤيتهم حبورا، وأتحدث إليهم فيزيدني حديثهم جذلا، وألبي وإياهم فتتجاوب هذه الوهاد بأصداء عشرات الألوف من أصوات الملبين ترتفع على موج النسيم وأشعة القمر إلى عليا السموات!
وأنى لي أهتدي إلى مضربي إذا أنا ضللت بين هذه الخيام، وليس لي من العلم بالمكان ما لأبناء مكة الذين يؤمونه كل عام؟ ولكن أيضل ها هنا أحد وها هنا موضع الهدى وملاذ الملبي نداء ربه، اللاجئ إلى فيء رحمته؟ وتقدمت خطوات إلى موضع توسط الخيام، فتموجت أشعة القمر أمام نظري على رماله، ثم وقفت وأطلت الوقوف، وبقيت محدقا بالسماء، مأخوذا بصفو أديمها، شارد اللب في جلال هذا الكون المحيط بي وعظمته، أناجيه وقد نضوت عني زينة الحياة الدنيا، فأحس به أبهى جلالا وأجل عظمة، كم طالت بي هذه النجوى؟ لا أدري، وأرادت قدماي أن تتقدما بي لأتصل بمن أسمع هسيسهم من إخواني المؤمنين، فتلفت أتعرف قبتي كيما أتخذ منها منارا أهتدي به في سيري، فلم أعرفها بين الخيام القريبة مني، إذ ذاك آثرت العودة للبحث عنها والاحتماء بها من ضلة الليل، فلما اهتديت إليها وقفت عند بابها، ولم تطاوعني نفسي على أن أتخذ منها حجابا بيني وبين السماء وقمرها الباسم الضياء، وبيني وبين هذا العالم الروحي العظيم الذي اجتمع هاهنا في هذه البقعة من بقاع الأرض، والذي يجتمع فيها في هذه الساعة من كل عام، ناسيا كل شيء من زخرف الدنيا متوجها إلى الله أن يتم على الأرض كلمة الهدى ويوطد فيها الحق والعدل والسلام.
وجلست مكاني على سجادة صلاة سحبتها من داخل القبة، وتركت لتصوري عنانه، وقد ارتسم كل ما تشتمله السموات والأرض حولي في دخيلة نفسي، وانتقلت بهذا التصور في هنيهة من بيئة المكان إلى بيئة الزمن، وطويت القرون القهقرى إلى أكثر من ثلاثمائة وألف سنة مضت، وامتثلت النبي العربي محمدا ها هنا فوق عرفات في حجة وداعه، محرما كإحرامنا، ملبيا كتلبيتنا، مستغفرا كاستغفارنا، خاضعا لله خضوعنا، عبدا لله كعبوديتنا له، امتثلت هذا النبي العربي وقد تخطى السنين، وقد فتح الله له فتحا مبينا، وقد أسلم لدينه أهل مكة الذين حاربوه وأصحابه وأخرجوهم من ديارهم، وقد آن أن يكمل الله للمؤمنين دينهم ويتم عليهم نعمته، امتثلته واقفا في هذا المكان على رأس مائة ألف من المسلمين بعد أن قطع إليه الطريق من يثرب إلى مكة محرما طوال هذه الطريق، سائقا هديه معه، مقيما على إحرامه أسبوعين كاملين، ملبيا والمسلمون من ورائه كل نهاره وطرفا من الليل، مسلما كل أمره إلى الله لا إله إلا هو، إليه يرجع الأمر كله، وإليه تصير الأمور.
كم أقمت أذكر فنفعتني الذكرى؛ ثلثي الليل أو نصفه أو زدت عليه أو نقصت منه؟! علم ذلك عند ربي، وشعرت بالسكون يمد رواقه حولي، حتى لم يبق مما كنت أسمع نبأة أو همسا، عند ذلك دخلت إلى قبتي وأطبقت أجفاني ألتمس النوم.
أفنمت حقا؟ وكم نمت؟ كل ما أذكره أنني كنت سعيدا وكنت ممتلئا نشاطا حين طرق أذني صوت المؤذن لصلاة الفجر، طرق هذا الصوت أذني فابتهج له قلبي وطرب له فؤادي طربه لأغنية عذبة ترتلها ملائكة السموات، وفتحت عيني فرأيت بشائر الضوء تسري من فرجات القبة، فقمت إلى الماء أتوضأ، فإذا الحياة تسري فيما حولي من المضارب، وإذا الذين يلتمسون الماء لغيرهم ينتشرون ها هنا وهناك، وإذا النداء للصلاة الأولى تتجاوب أصوات المنادين به في مختلف أنحاء البطحاء، وكلهم يلقي في آذان الخليقة التي بدأت يقظتها: «الصلاة خير من النوم»، وفي نواح مختلفة من البطيح المترامي الأطراف سمعنا الذين قاموا يؤمون من معهم للصلاة، ينادون: الله أكبر، وكلما أتم جماعة صلاتهم علت بالتلبية أصواتهم، وأقام الناس على ذلك حتى ذر قرن الشمس فوق الجبال إلى ناحية الشرق، عندئذ بدءوا يتسللون من خيامهم يرون بأعين النهار ما لم تسعفهم عين الليل على رؤيته من مكان الحج المقدس، فلما علت الشمس بدأت حياة النهار ضجتها وتجارتها، وبدأ الناس يلقون بعضهم بعضا بالتحية والتبريك، ثم ينتقلون بحديثهم إلى مألوف ما في الحياة.
وتجارة الحياة في عرفات تتصل بالحج وبالصدقات التي تهوي بها أفئدة الحجيج إلى الفقراء والمساكين ممن يطوفون بهم، الحجيج تهوي أفئدتهم إلى إطعام الجائع والبر بالمحروم؛ لذلك يسير الأعراب بقطعان من الغنم يبيعونها من يذبحونها لساعتهم ويتصدقون بها على ذوي الحاجة من إخوانهم المؤمنين، ومنهم من جاء لأداء الفريضة من أقصى الأرض وهو لا يجد قوت يومه، وآخرون اتخذوا من البقاع المقدسة مقاما ومن الصدقة مرتزقا، هؤلاء يطوفون بالمضارب يبتغون من ذوي الميسرة بعض ما رزقهم الله، ثم لا يكفيهم ما ينالونه فيعودون يسألون الناس إلحافا يستغلون بذلك إحسان من لا يمسكون أيديهم في يوم الحج عن الإحسان.
وخرجت من قبتي أتعرف ما حولي، وأشهد صنيع الناس يومهم هذا وقد جاءوا إلى الله حاجين متجردين، وإني لأتلفت يمنة ويسرة إذ وقع بصري على رجل لا شيء في سيماه يدل على أنه من أبناء الشرق، بل هو أدنى إلى أن يكون من أبناء الشمال في أوروبا بطول قامته النحيفة، وببشرته البيضاء المشربة حمرة وعينيه الزرقاوين وشعره الأصفر، وأخبرني بعض أهل مكة ممن حوله أنه هولندي «مسلماني» يقيم بجاوة، وأنه جاء يؤدي فريضته ودلفت إليه وألقيت عليه التحية بالفرنسية، وتحدثت إليه بها، فدلتني لهجته على أنه ليس من أهل هذه اللغة وأن أغلب أمره أن يكون إنكليزيا، وسألته عن جنسيته فعلمت أنه أيرلندي وأنه يقيم «بسرواك» في بورنيو، أكبر الجزر البريطانية في أرخبيل الملايا، وأنه أسلم من سنوات خمس، وأنه جاء ليؤدي الفريضة، فأقام بجدة سبعة أسابيع حتى أيقن رجال الحكومة العربية من حسن إسلامه، وسمحوا له بما يسمح للمسلمين، دون غيرهم، من دخول مكة ومن أداء فروض الحج ومناسكه.
अज्ञात पृष्ठ