وإنا لكذلك إذ علا في الجو صفير «زمزم» في أنغام مختلفة كأنما تجيب بها أنغام زورقنا المختلفة، ولم نعن بالأمر بادئ الرأي وحسبناه تحية تبادلها الباخرة الكبرى زميلتها الصغرى، وتابعنا اندفاعنا نشق عباب الموج لا نحفل هياجه، لكن ضجيج «زمزم» انقلب زئيرا، وجعل يزداد علوا، وتتقطع أنغامه ويبدو فيها صوت النذير، ماذا يعنون؟ سألت الربان في ذلك فأجابني: إنهم ينذروننا بأمر البحر وشدة هياجه ، قلت: فنحن أشد من البحر بأسا، فلنقتحم ما بقي منه إليهم.
ولم نزل في اندفاعنا نحوهم نجيب صفيرهم بصفير مثله، وأنغامهم بأنغام ليست دونها نذيرا، لم تبق هذه الأصوات التي ملأت جو البحر أصوات تحية إذن، بل انقلبت أصوات إرهاص كأنما تهاجم بارجة بارجة، أو كأنما نحن مدمرة تدنو من «زمزم»، وهبطت في الجو كسف من السحب حجبت الشمس، واشتدت الريح فزادت زورقنا على الموج اضطرابا، ويشتد في صفير «زمزم» صوت النذير فيبدأ رباننا يتردد ماذا يصنع على حبه الإقدام والمغامرة؟ فأشجعه وأدفعه إلى مزيد من الإقدام وأصور له الظفر وشيكا يمد إلينا يده، ويزداد صفير «زمزم» عنادا في النذير ولا ينزل القوم لنا سلما، هنالك غلب اليأس الربان، وكأنه ذكر النظام وأنه في إمرة «زمزم» وليست زمزم في إمرته، فبدأ دورانا يمهد به للنكوص مدبرا، وثرت به، وذكرت له أنا إذا بلغنا «زمزم» لم يكن لرجالها بد من معاونتنا على الرقي إليها، لكن نذير «زمزم» المتصل كان أقوى في نفسه أثرا فلم يعقب، واندفع مسرعا نحو موقفه الأول في المرفأ معتذرا بأنه لن يجازف فيعرضنا لخطر تكون عليه تبعته.
سقط في يدي حين فاتنا الظفر بغايتنا، مع ذلك لم آسف لهذه الموقعة الصغيرة التي غامرنا بها، فقد قضينا أثناءها أكثر من ساعة قطعنا بها هذا التشابه المملول الذي أظلنا مذ جئنا إلى الزورق قبيل الظهر فثقل علينا ظله، وما كان أجملها ساعة وأشدها روعة وأكثرها إثارة لمختلف إحساسنا ومشاعرنا! ولم نكن أقل بها متاعا أثناء عودنا بعد الموقعة، فسرعان ما اطمأنت النفس إلى حظها حين استدار «السويس» مدبرا، وفتحت صدري أستنشق فيه هواء البحر الرقيق الصافي واشتملتني غبطة راضية عقبت ثورتي لفرارنا، ووقف الزورق مكانه الأول والنهار وشيك أن يولي، والسنابك الراسية عند الشاطئ قد امتلأت بالحجيج، فلم يبق منهم من ينزل إليها إلا نفر قليل.
وبدأ ربان «السويس» يفكر في أمر هؤلاء وما يصنع بهم، لقد أقبلوا لركوب «زمزم»، فإيواؤهم وإطعامهم فرض على أصحابها، استقر رأيه مع ممثل الشركة على أن يجيئوهم بالخبز من ينبع، وأن يسحبوا الصنادل إلى جوار «السويس» وأن يمدوا إليها النور الكهربي، وأن يفتحوا قاعاتها لينام هؤلاء الحجاج فيها، وفعلوا، وكان مشهدا ظريفا جر هذه السنابك الضخمة وعليها هذا الجمع الغفير وربطها بالزورق البخاري الصغير جدا بالقياس إليها، وأضاءتها من الكهرباء أنوار ساطعة أرتنا القوم فيها وهم المرح والغبطة والجذل والرضا، فهم لم يكادوا يطمئنون إلى مكانهم، وينعمون بالنور يلقي شعاعه عليهم، حتى أحسوا كأنما يبعث نور الوطن شعاعه إلى قلوبهم، وكأنما تسري إليهم من مصر العزيزة المحبوبة نغمة أنس وهناءة، انفجرت شفاه الكثيرات من الحاجات عن أغاني الحجاج يرتلنها ويرددنها في صوت لا يخلو من رخامة الأنوثة وإن خلا من جمال النغم، يا ما أحيلى هذا الغناء! سرت إلينا منه ما اهتزت له الجوانح، لا من طرب بل من أشواق في النفس ثارت لواعجها وذكريات قريبة بمكة والمدينة انتشر أريجها، ونسمع إليهن يرددن: «إمتى نعود لك يا نبي؟» يقلنها صادقات، تصدر من قلوبهن قبل أن تتحرك بها ألسنتهن، فتهتز قلوبنا وإن لم تتحرك ألسنتنا، وهل شيء أكثر هزا للعواطف من كلمة صادقة صادرة من قلب مخلص عن إيمان سليم!
ترك الربان غرفته تلطفا منه، فقضينا بها ساعات الليل، وما إن تنفس الصبح حتى استيقظ هؤلاء المئون والألوف جميعا وقد أذن فيهم مؤذن الفجر أن الصلاة خير من النوم، وتحرك «السويس» في الساعة الخامسة من بكرة الصبح يجر معه صندلين، وسار يقصد «زمزم» في بحر هادئ لا موج فيه بل لا حراك به، وكأنه لما يستيقظ من هدأة نومه، وبلغنا «زمزم» فأرسينا إلى جانبها وقد أنزلت سلمها وأسرع الذين في الصنادل يرقونها، فلما خلت الصنادل نزلت ومن معي بالسويس وتخطيناه إلى زمزم، وبادلت رجالها التحية ثم آخذتهم بما صنعوا حين صدونا أمس عن الصعود بصفيرهم المليء بالنذير، فاعتذروا بأن البحر بلغ هياجه ساعتئذ وبلغ اضطراب «زمزم» فوقه، فلم يكن اقتراب السويس منها ممكنا، فإن أمكن حف صعودنا إلى الباخرة وهي فيما هي فيه من هذا الاضطراب خطر لا قبل لأحد باحتمال تبعته.
وما لبثت حين اطمأن بي المقام في غرفتي أن شعرت كأني عدت إلى مصر، فاستبدلت باللباس البدوي لباس المصري، أليس علم مصر خفاقا على سارية هذه الباخرة، فلأعد إذن كما كنت يوم غادرت مرفأ السويس، وكيف لا أفعل، ألست الآن في مصر؟! يا لرضا النفس وطمأنينة القلب! لقد غادرت مصر أبتغي أداء فريضة الحج فأديتها، وأبتغي زيارة الرسول الكريم في قبره فزرته، وأبتغي القيام بدراسات في منزل الوحي فقمت بها، كل ذلك وأنا بحمد الله في صحة موفورة وبنفس راضية، فماذا أبتغي وراء ذلك؟!
وها أنا ذا الآن تقلني جارية يرف عليها علم مصر وطني العزيز المفدى، والعلم هو الوطن، وليس رمزا له وكفى، وإن يكن رمزا فهو كذلك، كما أن اسمي رمز لي، واسمك رمز لك، وأنا إذ أسمع اسمك ترتسم صورتك أمام بصيرتي وأحسبني أراك كما لو ناديتك فأجبتني، ذلك شأني إذ أرى العلم؛ ترتسم لرؤيته صورة مصر كاملة أمامي، مصر بحدودها المترامية، وبنهرها وواديها وصحاريها، مصر بسمائها الصافية ونسيمها العذب، وتربتها الخصبة، وأزهارها المنبعثة الأريج، وثمارها الحلوة الشهية، وترتسم أمامي مصر على التاريخ بحضارتها العتيدة وآثارها الخالدة، وبفنها وعلمها وبآمالها وآلامها، كيف لا أشعر بنفسي إذن في مصر وأنا على باخرة مصرية تحمل علم مصر؟! ألا لو أن هذه الباخرة جابت بحار الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، فبلغت بي القطب ودارت بي حول الأرض لما شعرت يوما على ظهرها أني غريب عن بلادي ووطني، ولرأيتني أتنقل عليها وكأنما أتنقل من بقعة في مصر إلى بقعة غيرها في مصر، ولكنت بذلك مغتبطا دائما، سعيدا غاية السعادة.
وتحركت «زمزم» مبحرة حين تكبدت الشمس السماء ساعة الزوال، تحركت ميممة أرض الوطن، مودعة بلاد النبي العربي، وقلوب السفر عليها يتنازعها الحنين إلى الوطن والأعزة فيه، والتعلق ببلاد النبي العربي والحرمين بها، وانقضت ساعة الغداء والقيلولة، وعاد الناس يتلقون جماعات يتحدثون عن حجهم وما رأوا أثناءه راضين شاكرين فضل الله عليهم، تطوق ثغورهم جميعا بسمات طمأنينة وفيض من نعيم، ويسعدهم سكون البحر ورقة نسيمه، وأقبل الليل وأوينا إلى مضاجعنا، فإذا بي أستيقظ بكرة الفجر على أصوات جماعة جعلوا حلقتهم إلى جوار النافذة من غرفتي، ولقيت أصحابي بعد الإفطار وتحدثت إليهم في ذلك، فذكر كل منهم أنه استيقظ إذ سمع مثل ما سمعت، وزاد بعضهم أنه خرج إلى القوم يرجوهم أن يخفضوا من أصواتهم فابتسموا، وقالت سيدة: صل يا أخي على النبي! وأضاف أحد أصحابي: «لقد جئت من مصر على «زمزم» فلم يكن من ذلك شيء، بل لزم القوم الأماكن التي عينت لهم لم يبرحوها، فما لهم كذلك اليوم يفعلون، فيخرجون على النظام ولا يرعون ما لغيرهم في الدرجات الأخرى من حرمة؟!» وابتسمت لملاحظة صاحبي وعقبت عليها بقولي: «التمس يا صاح لهم عذرا، إنهم يوم غادروا مصر كانوا لا يزالون يذكرون النظام وسلطانه، والقانون وأحكامه، والطبقات وتفاوتها، ويرون ذلك كله ماثلا في عمدة البلد وجندي البوليس وفي جبروت الأغنياء وذوي الجاه والمكانة، لم يكونوا بعد قد نسوا ما ألفوا سماعه من هيبة الحكومة ومن بطش القانون وشدة أحكامه، وكانوا يرون القانون منقوشا بأحرف من بأس على بندقية الجندي في الطريق وسوط عذابه في السجن.
لم يكن أحد منهم يحسب المساواة التي تحدثهم عنها حقيقة لها في الواقع وجود؛ فكانت نفوسهم تغلي حفيظة، وكانت صدورهم تضيق ثم لا ينطق لسانهم من العجز والخوف؛ لذلك كانوا يحافظون على النظام الذي رسم لهم لا عن رضا وطواعية، ولكن حذر العقاب الذي يحل بهم لمخالفته، فلما حجوا البيت كما حججناه، ولبسوا الإحرام مثلما لبسناه، وطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة كتفا معنا إلى كتف، ثم لما صعدنا جميعا عرفات محرمين ملبين داعين، رأوا صورة في الحياة لم يألفوها، ولن يألفوها في غير الحج، رأوا أننا جميعا سواسية حقا، إخوان حقا، وأنا جميعا ضعاف غاية الضعف، صغار كالذرات أمام عظمة الله وجلاله ومهابته، هنالك أصغروا ما بينهم وبين غيرهم من تفاوت، وأيقنوا أن الفقر فخر لمن عرف أن يسمو فوق هوان الغنى، وأن الضعف قوة ما آزره فضل في النفس وخلق عظيم، وأن الشحناء ليست من طبع الكرام، بهذا الروح عادوا من حجهم ، فإن كنت يا أخي في ضيق من حريتهم وكنت حريصا على أن يعودوا لما ألفوا في مصر من نظام، فأنظرهم أياما فسيرون بعدها من هيبة الحكومة وبطش القانون وسلطان النظام، وما يتمثل ذلك فيه من بندقية الجندي في الطريق وسوط عذابه في السجن، ما يردهم إلى حمى هذا النظام الذي يمقته الإسلام ولا يرضاه الله.»
وأمسك أصحابي عن القول بعد أن فرغت من حديثي، وإنا لفي هذه الفترة من سكوننا إذ حمل الهواء إلينا حداء وترديدا: «متى نعود لك يا نبي؟» وفي نبرتها من حلاوة الإيمان وعذوبة الصدق في التوجه ما جعل قلوبنا تهتف مع القوم: «متى نعود لك يا نبي؟» ترى هل غير هذا الهتاف من حبها النظام الذي ألفت وتوجيهها النقد إلى الذين تغنوا فحركها غناؤهم إلى التوجه لله بالأمل الصادق في العودة إلى بيته وقبر نبيه حيث الناس سواسية إخوان، لا يفاوت بينهم مال ولا جاه ولا سلطان؟
अज्ञात पृष्ठ