177

वहय के घर में

في منزل الوحي

शैलियों

على رأسهم، وألتمس كذلك جمع المشركين بجحفله وبعديده وعدته، وقلت لصاحبي: «هل ترى سلك النبي - عليه السلام - بجيش المؤمنين هذه الطريق التي سلكنا من المدينة إلى هنا؟» وسكت صاحبي هنيهة يفكر ثم قال: «لا أدري! ولكنني لا أحسبهم سلكوها، وأكبر ظني أنهم جاءوا من ناحية آبار بني حصان وبئر الشيخ، على أني لا أقطع بشيء من ذلك، بل لا أرجحه، فالطرق في هذه البادية بين المدينة وينبع كثيرة، وقد اختلفت في الأزمان الأخيرة غير مرة، فتعيين الطريق الذي سلكه رجال بدر الكبرى ليس أمرا ميسورا.» وأجبت بعد أن فكرت مليا: «إنك لعلى حق، وراوية التاريخ تشهد بأن هذه المنطقة من الحجاز كانت كثيرة الثمر على عهد الرسول، وكانت لذلك مقام قبائل كثيرة اتخذت منها حضرا وموئلا، وما أحسبنا نصادف اليوم فيها هذه البطون والقبائل التي كان النبي يوادعها أو يحالفها كلما خرج إلى سرية من سراياه أول عهده بالمدينة، فقد جنت الأحوال السياسية والاجتماعية على هذه البلاد وحضارتها وطرقها، فما يكاد شيء مما بها اليوم يشبه ما كان بها في صدر الإسلام، أما وذاك شأنها فحسبنا أننا بلغنا بدرا، ولعلنا نجد بها للاستشهاد الحق في سبيل الله ذكرا حسنا.»

وبدأت منازل بدر تتضح معالمها للنظر، فلم أصدق من أمرها ما رأيت، لقد أحيينا بمصر ذكرى بدر منذ عام، فبدت لنا يحيطها التاريخ بهالة من جلال وإكبار، هذا إلى أنها كانت قبل الغزوة الكبرى سوقا من أسواق العرب وموسما من مواسمهم، وفي غزوة بدر نزل قوله - تعالى:

إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . ألا يجدر بمكان ذلك شأنه في الإسلام، وكان في الجاهلية سوقا وموسما أن تهوي إليه الأفئدة وأن يجتمع الناس حوله وأن يكون مدينة ذات شأن؟! فما هذه المنازل التي نرى، وهي أدنى إلى الأكواخ منها إلى المنازل، بل إلى الآثار الدارسة منها إلى الربوع المأهولة؟!

لم تضن الطبيعة على بدر بما يصلحها للمقام والحضر، فالماء بها وعلى مقربة منها وفير، وهذه المنطقة بين بدر وبين المدينة تكاد تعدل منطقة الطائف خصبا، لقد مررنا بين الحمراء وبدر بخيف الخرمان، وخيف الواسطي، وخيف دغبج، وخيف الحسينية، وخيف الفارعة، والخيف الجديد، وكلها ذات مياه ونبات وشجر، وبها ضياع تحدث عن شيء من النعمة وخفض العيش، فما بال بدر تبدو دونها جميعا حياة ونضارة؟! أم بلغ من إكبار الناس للغزوة الكبرى أن آثروا ترك المكان الذي حدثت به لا يقربونه؟! إن يكن ذلك فلعل لهم فيه بعض العذر، فللاستشهاد مهابة وقداسة، وفي طبيعة المهابة أن تباعد بيننا وبين ما تمتلئ له نفوسنا إعظاما وإكبارا.

وناجيت نفسي: «ترى أية صورة لذكرى بدر أقامها أهل هذه البلاد حيث وقعت؟» وأراد خيالي أن يتمثل هذه الصورة، لكنني ما لبثت أن ابتسمت حين ذكرت ما مررت به من المواقف الجليلة في تاريخ الرسول مما لم يخلد سوى التاريخ ذكرها، أم ترى أقام الخلفاء والملوك ببدر مسجدا تحدث قبابه ومآذنه الذاهبة في السماء عن بعض ما حدث يوم التقى الجمعان: جمع المؤمنين وجمع المشركين؟ إنني لا أرى أمامي قبابا ولا مآذن، فلأنتظر ففي هنيهة سأرى.

استدارت السيارة حول المنازل المبعثرة ها هنا وهناك، فهي بذلك أدنى في نظامها إلى الآثار الدوارس منها إلى مقام الأحياء، ولم يطل بنا السير إذ وقفنا أمام بناء متواضع قيل لنا: إنه زاوية السنوسي، ولقينا هناك رجلا عرفنا أنه سادن الزاوية والموكل بأمورها جميعا، فسأله صاحبي عن أمير بدر، وعلمنا منه أنه غائب عنها، وعجبت لاسم الأمير يطلق على رجل في قرية، بل ضيعة شأنها ما رأيت، لكني عجبي زال حين علمت أن كلمة الأمير تطلق في بلاد العرب على كل وال لمدينة أو قرية أو ضيعة، لو أن هذه التسمية طبقت في مصر لقيل لعمدة القرية: إنه أميرها، ولشيخ العزبة: إنه أميرها، ولكان في مصر ألوف وعشرات الألوف من الأمراء، ولفقد هذا اللقب ما له في نفوس المصريين اليوم من إجلال، وهل للألقاب والأسماء قيمة إلا بقيمة مسمياتها وما تبعثه في النفس من أثر؟!

وسألنا سادن الزاوية: «أنبغي وكيل الأمير؟» وأرسل في طلبه حين أجابه أصحابي بالإيجاب، وألح على الرسول في استعجاله حين رأى دليلنا الجندي الوهابي ينبهه إلى واجب أمير بدر ووكيله، وفتح السادن زاوية السنوسي فتخطينا بابا في مثل تواضع البناء وقلة ارتفاعه إلى فناء ضيق امتد بهو الزاوية عن يمين الداخل إليه، وبهو الزاوية مستطيل يكاد يبلغ طوله خمسة عشر مترا، وعرضه خمسة أمتار، وقد فرش بحصير قديم هو أكثر ما كان في المكان تواضعا.

وجلسنا أول ما رأينا الحصير وطلبت إلى أصحابي أن يجيئونا بالطعام، فقد أذن العصر ولم نتناول مذ تركنا المسيجيد وجبة، وقد أجهدنا ما لقينا في سيرنا من مشقة مرهقة، ولا شيء ألذ من طعام السفر البسيط ولا أصح منه، ثم توضأنا بالزاوية، وقمت أدور حولها لعلي أجد في ناحية منها ما يصلح رمزا لها أوجه إليه عدسة «الفوتوغرافيا»، فلما لم أجد ما يصلح لذلك وقفت عند ركن أسرح الطرف منه إلى ما حولي ، وأفكر وأنا بموقفي في هذه الزاوية ومن بناها، وفي تصوره وأمثاله الرواقيين المسلمين للحياة، وفي بعد هذا التصور عما أفهم من روح الإسلام، فهذا الدين يدعو إلى عدم الاكتراث بالدنيا ومادتها، لكنه لا يدعو إلى الرغبة عنها، بل هو يدعو إلى السعي للرزق وإلى الجد في العمل، يقول الله - جل شأنه - في كتابه العزيز:

وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض ، فالذين يبتغون الدار الآخرة وينقطعون لذلك عن الحياة وما فيها ينسون نصيبهم من الدنيا ولا يسعون في مناكب الأرض ليأكلوا من رزق الله وليحسنوا كما أحسن الله إليهم، أم ترى الذين ينقطعون إلى العبادة ويدعون إلى الفقر يبتغون بهما التطهر إنما يفعلون ذلك على أنه خير نصيب يناله الإنسان من الدنيا، وأن إحسان هؤلاء إلى الناس كإحسان الله إليهم إنما يكون بدعوة الناس إلى الفقر والعبادة؟ هذا رأي له قدره واحترامه، لكني أراه بعيدا عن روح الإسلام كما أفهمه من كتاب الله الكريم.

وانطلقنا نبتغي ميدان بدر وقبور شهدائها، وليس يحول بين الزاوية وهذا المكان حائل من بناء، بل يفصل بينهما فضاء فسيح منبسط هبطت عليه هذه الساعة من موليات النهار ظلال لم أعن نفسي أكان سببها غمام حجب الشمس، أما أن الشمس توارت وراء الآكام؟ وفيما نسير في هذا الفضاء الفسيح نبتت أمام النظر أحجار قائمة في صفوف متراصة، قال صاحبي: «هذه قبور الذين قتلوا ها هنا في الموقعة التي حدثت بين الأشراف والسعوديين من عشر سنوات.» فجأني هذا النبأ فوقفت هنيهة مشدوها أسائل: «أغزوة في هذا المكان بين طائفتين من المسلمين؟! يا للعار! إن بدرا لحرية أن تكون حراما على المسلمين جميعا كحرمة مكة وكحرمة البيت العتيق، وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ولم يجدوا من يصلح بينهما ويقاتل التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فحق عليهما أن يجتنبوا القتال في مكان له على التاريخ من الحرمة أنه أول مكان انتصر فيه الإيمان على الشرك وحقت فيه كلمة الله على الكافرين.» قلت هذا والغضب لما فعل الوهابيون والأشراف آخذ مني مأخذه، فلم يجد صاحبي بدا من أن يقر رأيي، وإن كنت أحسبه قد تولاه العجب أن يثير الأمر من حماستي ومن غضبي ما أثار.

अज्ञात पृष्ठ