وإنما كان قصر سعيد واحدا من قصور العقيق الكثيرة التي جعلها أصحابها مرابع ترف وجنات نعيم، كان به قصر عروة بن الزبير على مقربة من بئره، وقصر سكينة بنت الحسن وكان يسمى الزينبي، وقصر مروان بن الحكم، وقصر عبد الله بن عامر، وقصر جعفر بن سليمان، وقصر إبراهيم بن هشام، وغيرها من القصور الكثيرة القائمة بين بساتينه وآباره ومزارعه وجماواته، وجماوات العقيق مرتفعات سود كبار قائمة على شفيره الغربي دون الجبال وفوق الهضاب، وأقرب هذه الجماوات إلى المدينة جماء تضارع القريبة من بئر عروة، وتجاورها جماء أم خالد وتكاد تتصل بها من ناحية الشمال، أما جماء عاقل فتبعد عنها إلى الشمال كذلك، وهي أقرب الجماوات إلى قصر سعيد بن العاص.
بدأنا الحديث عن ظاهر المدينة من جنوبها حيث تقع قباء في سفح عير، وتناولنا الشرق موقع حرة واقم، والغرب موقع حرة الوبرة ووادي العقيق، ونحن في غنى عن أن نتناول بالقول شمال المدينة، فشمالها أحد يفصل بينها وبين وادي قناة، وقد تحدثنا عنهما حين حديثنا عن قبرة حمزة، وهذا التحديد لظاهر المدينة يرسم أمامنا صورة منها ومما يحيط بها من نواحيها الأربع، ويفسر لنا الأحاديث المنسوبة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
في تحريمها كحرمة مكة، فقد روي أنه قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة.» أو قال: «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا تقطع عضاهها ولا يصاد صيدها.» أو قال: «إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة.»
وجبلا المدينة المقصودان هنا هما: عير وأحد، أو عير وثور الواقع وراء أحد ليدخل أحد في الحرم، ولابتا المدينة هما الحرتان: واقم والوبرة، ولسنا نقف بطبيعة بحثنا عند مناقشة ما قيل في إثبات هذه الأحاديث أو نفيها، وفي حرمة المدينة أو عدم حرمتها، ولا نريد أن نضع هذه الأحاديث إلى جانب خطاب النبي على أثر فتح مكة إذ قال: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام من حرام من حرام إلى يوم القيامة.» لنقول: إن حرمة مكة مرجعها إلى البيت العتيق، إنما أردنا أن نظهر القارئ على ما يراد بجبلي المدينة ولابتيها لتكمل أمامه صورتها، وليرى أن العقيق الواقع أمام لابة الوبرة يقع بعد ظاهر المدينة على التحديد الذي اخترناه حين جعلنا الخندق الحد الفاصل بينهما وبين ظاهرها.
هب هذه الأحاديث صحت وكان رسول الله قد حرم المدينة كما حرم إبراهيم مكة، أفيجدر بنا أن نستنبط من ذلك أن الذين شيدوا قصورهم بالعقيق إنما تخطوا حرم المدينة ليكون لهم من الحرية ما ليس للمقيم داخل هذا الحرم، أم أن الأمر لا شيء من ذلك فيه، وإنما بنى ذوو الثراء بالعقيق لجودة جوه وعذوبة مائه وجمال مناظره ولما يوحيه ذلك إلى النفس من معاني النعمة في الحياة؟ أم أن الأمر لم يكن هذا ولا ذاك وإنما بنى بالعقيق من بنى؛ لأن المدينة انفسحت رقعتها وكثر أهلها حين كانت عاصمة الإسلام وحاملة لوائه، فلم يكن بد من تجاوز حدودها لمن أراد الابتعاد عن ضجة الحاضرة وجلبة الحياة فيها؟
لا أخالنا قادرين على أن نقطع أي هذه الأسباب الصحيح؟ وربما كانت كلها قد تضافرت فأخرجت الناس من حرم المدينة إلى وادي العقيق، فلما انحلت الحضارة الإسلامية ولم تبق المدينة عاصمة الإسلام وحاملة لوائه عاد العقيق فأقفرت عرصاته، وكثرت جماواته، واضطرب مسيل الماء فيه، فارتد اليوم قفرا كما كان قبل أن يعطيه رسول الله بلال بن الحارث المزني، ويوم كانت يثرب موضع نزاع دائم ودسائس متصلة بين الأوس والخزرج واليهود.
أرجأنا الحديث عن حياة رسول الله وأصحابه بالمدينة حين حديثنا عن آثارها حتى نتم الحديث عن ظاهرها، أما وقد أتممناه فحق علينا أن نصف طرفا من هذه الحياة الإسلامية الأولى في عاصمة الإسلام، ولعلك صورت لنفسك طرفا من هذه الحياة بما قصصنا عليك من أمر المدينة وطبيعتها وآثارها وظاهرها، فقد بلغ رسول الله المدينة أول هجرته إليها وأهلها من الأوس والخزرج مشوقون لحياة روحية جديدة تسمو بهم على الأصنام وعبادتها مما كان اليهود المقيمون بين أظهرهم يعيبونهم عليه، وتقيم لمدينتهم وحدة طالما جنت عليها المنازعات والحرب الداخلية جناية دعتهم إلى التفكير في إقامة رجل منهم أميرا عليهم جميعا، فلما جاء النبي إليهم وأقام بين أظهرهم والتف حوله من الأوس والخزرج كثيرون بدأت الحياة في المدينة تتجه اتجاها جديدا، وبدأ الأوس والخزرج الذين أقاموا على شركهم ينظرون إلى هذا التطور الجديد بعين الريبة والحذر، وينسون لذلك ما كان بينهم وبين اليهود من عداوة وبغضاء.
وبدأ رسول الله حياته السياسية في المدينة، وجعل سياسته فيها سياسة قوة لا يتطرق إليها الضعف، وإن لم تشبها شوائب العدوان على الغير، وسياسة القوة هذه كانت مقدمة حياة الجهاد الذي اندفع إليه المسلمون من يومئذ إلى أن بدأت نذر الانحلال أيام الدولة العباسية، وأنت إذ تعود بذاكرتك إلى ما قصصنا من أمر الآثار بالمدينة وبظاهرها ترى هذا المعنى واضحا جليا، ذلك حديث المساجد والآطام والقصور، بل هو حديث الجبال والآبار والعيون، لم أذكر مسجد السبق بين المساجد التي تحدثت عنها؛ لأني لم أقف له على أثر، لكن الروايات تجري بأن هذا المسجد أقيم شاهدا على المكان الذي اعتاد المسلمون الاستباق في ميدانه الفسيح رجالا وعلى الجياد، وفي هذا مظهر قوة وإقدام.
ومسجد القبلتين يذكر حادثا روحيا استقل به المسلمون عن غيرهم من أهل الأديان التي تتجه إلى بيت المقدس، ويحدث لذلك عن استهانة المسلمين باليهود ودسائسهم التي جعلت أهل المدينة قبل هجرة الرسول إليهم يخشونهم ويحسبون لهم ألف حساب، ومسجد الفتح ومسجد الإجابة والمساجد الواقعة على مقربة من أحد والقائمة حول الخندق تحدث كلها عن غزوات اشتبك المسلمون فيها واستهانوا بالموت أثناءها، ثم كانوا أبدا الغالبين، وكثير من الآبار يحدث عن إيثار المسلم إخوانه على نفسه، فبئر رومة اشتراها عثمان بن عفان بعشرين ألف درهم لتكون خالصة للمسلمين ولم يكن له منها إلا حظ رجل منهم، والعيون التي ضمت للعين الزرقاء كانت كلها مملوكة لأفراد من المسلمين، فنزل كثيرون منهم عن مالهم لله وفي سبيل الله، وما كان لنفس تعرف الجهاد في سبيل الله وتقبل عليه راضية مرضية أن تعرف الأثرة أو ترضاها، أو أن تعرف الضعف فتذل له، والقوة والإيثار لا يجتمعان في نفس ما يجتمعان في نفس المجاهد، وليس يسمو أحد إلى ما يسمو إليه المجاهد المؤثر من أمثال الحياة العليا، فإذا بلغ المؤثر من إيثاره أن نسي نفسه في إخوانه وأن أحب إخوانه في الله لم تغلبه قوة في الأرض حيا، فإن مات بقي من ذكر جهاده ما يكفل لمثله الأعلى النصر لا محالة.
अज्ञात पृष्ठ