هذه هي البقعة التي نزل بها رسول الله أول ما بلغ يثرب حين مهاجره من مكة، وتحيط بها إلى مرمى النظر من كل جانب طبيعة متفاوتة الألوان تصف ظاهر المدينة وتعيد إلى الذاكرة صورة من تفاوت حظها، ذكرنا ما يراه القائم بأعلى عير من هذا المحيط ، إذ يرى يثرب أمامه ووادي العقيق إلى يساره ممتدا غرب المدينة فيما وراء حرة الوبرة إلى ما بعد بئر رومة في شمالها، والعريض وعوالي المدينة إلى يمينه من شرق حرة واقم، وهناك في الشمال من أقصى المدينة أحد، وتبدو هذه الأودية منحدرة من الجنوب إلى الشمال تسيل في انحدارها مياه الأمطار، فتجعل منها جنات ذات زرع زاهي الخضرة، وبساتين تنبت من الفاكهة ما لذ وطاب، إلا التفاح والكمثرى مما لا يجود في البلاد الحارة، لقد كان وادي العقيق حتى هاجر رسول لله إلى المدينة ممرعا بالمزارع ذات البهجة، فلما انتشر الإسلام وامتد لواء عاصمته إلى مصر والروم والفرس وانهالت الأموال إلى المدينة أصبح العقيق قصورا كله، يفاخر في ترف الحضارة قصور بزنطية ورومية، ولقد كانت عوالي المدينة زاهرة عامرة بعد أن أجلي اليهود عنها وأصبحت خالصة للمسلمين، بها منازل بني عبد الأشهل وبني معاوية، حولها البهاء والنضارة والرواء، فلما تنكر الحظ للمدينة بعد أن تركها أبناؤها الأولون ليقيموا بدمشق وبغداد والقاهرة؛ ولينعموا في رياض الأندلس بما حسبه آباؤهم في العهد الأول حلما من الأحلام، بدأت قصور العقيق تندك، وبدأت نذر التدهور تمد يدها القاسية المدمرة إلى كل ناحية من المدينة.
وأنت اليوم لا ترى في طريقك إلى قباء من غراس أو بساتين تلفت النظر بعض ما ترى من يباب بلقع لا زرع به ولا ثمار، ومتى كانت الأرض تأخذ زخرفها وتزدان لقوم هجروها فلم يعكفوا على استغلالها والإفادة من خصبها مكتفين بأن يعيشوا كلا على غيرهم لا يأتون بخير من سعيهم ودأبهم.
وهذه المنطقة بين قباء والمدينة من أخصب مناطقها، بل لعلها أخصبها؛ وهي لذلك تثمر جل فاكهتها وخضرها؛ ومن ثم كانت متنزه المدينة ومصحها في مختلف العصور، يخرج إليها الناس للتروض، ويقيم بها الناقهون استعادة للنشاط والقوة، ولقد كان رسول الله كثيرا ما يخرج في أصحابه إليها ، فهي قد تركت في نفسه أجمل الأثر مذ نزل أول مهاجره بها، فلما أزمع إذ ذاك الانصراف إلى المدينة سار في مظاهرة من المسلمين متخطيا بئر أريس بوادي رانوناء متجها إلى وادي بطحان فنخيل يثرب، وإنه لبوادي رانوناء إذ أذنت صلاة الجمعة، فنزل فصلاها بمن معه، وذكرا لهذا الحادث أقيم على طريق قباء مسجد الجمعة، يقوم اليوم على يمين الذاهب من قباء إلى المدينة، وكان موضع هذا المسجد يوم صلى به النبي واقعا في منازل بني سالم من الأنصار، ولا تذكر كتب التاريخ المدونة أول من بنى هذا المسجد، أما بناؤه الحالي فأقامه بايزيد السلطان العثماني الذي تولى السلطنة من سنة 886 إلى سنة 918 هجرية، يدل على ذلك نقش لا يزال موجودا على حجرين من الرخام الأبيض مثبتين في جداره، وقد عفت الأيام على منازل بني سالم وتركت المسجد يقوم اليوم في أرض مهملة إلا من بستانين قلت العناية بهما، يقع أحدهما في شماله، والآخر في جنوبه.
ذكرت في فصل «آثار المدينة» ما حدث حين دخول النبي إليها بعد صلاة هذه الجمعة وخطبته فيها، فلا حاجة إلى العود لذكره، وإنما أقف هنا فيما بين قباء ومسجد الجمعة ليحدثني الأستاذ عبد القدوس عن أطم الضحيان وحصن كعب بن الأشرف، يقع أولهما على مقربة من قباء إلى ناحية الغرب، ويقع الآخر إلى ناحية الشرق وبينه وبين قباء أربعة أمثال ما بين الضحيان وبينها، وذكرت لحديث الأستاذ عبد القدوس ما كان بيثرب حين هجرة الرسول إليها من آطام وحصون تحميها غائلة المعتدين عليها، وتجعل عبد الله بن أبي ابن سلول يقول إذ يتحدث القوم في أمر قريش قبيل غزوة أحد: «لقد كنا يا رسول الله نقاتل فيها، ونجعل النساء والأطفال في هذه الصياصي، ونجعل معهم الحجارة، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية، فإذا أقبل العدو رمته النساء والأطفال بالحجارة وقاتلناه بأسيافنا في السكك، إن مدينتنا يا رسول الله عذراء ما فضت علينا قط، وما دخل علينا عدو فيها إلا أصبناه.»
وشاقني أن أرى هذه الحصون والآطام كيف كانت؟ وانطلقت بنا السيارة حتى كنا عند أطم الضحيان، فإذا أحجار سود من حجارة الحرار مركوم بعضها فوق بعض، ولم يبق من الأطم إلا جدار هو القائم يحدث سمكه وارتفاعه عما كان عليه من عظمة وقوة ومنعة، وهو بالغ الدلالة على ذلك كله، يبعث ما بقي منه إلى النفس رهبة ومهابة، تسلقنا بعض هذا الجدار السميك ورميت بنظري إلى الفضاء حولي، فخلتني أرى ما كان عليه من قبل بما تبينت من نوع عمارته، تدل عليها الآثار القليلة الباقية منه، وهبطت أسأل عن حصن كعب بن الأشرف، فعلمت أنه ليس خيرا من هذا الأطم صيانة، وأن ما بقي من آثاره لا يزيد عما بقي من الضحيان، على أن كعبا وحصنه أثارا في ذاكرتي مقتل الرجل على عهد الرسول، في حين لم يثر الضحيان شيئا أعرفه، فقد كان كعب عدوا للمسلمين شديد اللدد في عداوته، يهجوهم ويرسل فيهم الأشعار ويعيبهم بمقذع القول، هنالك ائتمر به جماعة من شبان المدينة، فاحتالوا عليه واستدرجوه ليلا من حصنه وقتلوه، وكعب هو الذي قال بعد غزوة بدر ومقتل سادات قريش بها: «والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.» وهو الذي ذهب إلى مكة يحرض على رسول الله، وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب؛ قليب بدر، وهو الذي رجع بعد ذلك إلى المدينة وجعل يتشبب بنساء المسلمين، ومقتل كعب هو الذي أدى إلى حصار بني قينقاع وإلى تجويعهم فتسليمهم وإجلائهم عن المدينة.
وليس يسعني وأنا الآن في طريق قباء إلى المدينة أن أغفل الحديث عن مشربة أم إبراهيم، ولست أخفي ما كان بي من شوق إلى زيارة هذه المشربة والوقوف بها مذ نزلت المدينة، ولا عجب، فأم إبراهيم هي مارية القبطية، وهي المصرية التي بعث المقوقس بها وبأختها سيرين هدية لرسول الله حين بعث رسول الله إليه يدعوه إلى الإسلام، أما وهي ابنة وطني مصر، وهي التي وصلت بين وطني ونبينا - عليه أفضل الصلاة والسلام - بصلة خالدة على التاريخ إذ ولدت له ابنه إبراهيم، وهي التي أبقت لذلك في مدينة الرسول آثارا يزور الناس جميعا؛ منها قبر إبراهيم بالبقيع؛ فلا جرم أن أحرص - أنا المصري الصميم - على زيارة المكان الذي اختاره الرسول مقاما لمارية، والذي كان مقامه كلما ذهب إليها، والذي شهد عبراته تتساقط يوم مات إبراهيم حزنا وجزعا، ولا جرم أن يكون بي إلى هذا المكان هوى لا يشعر به غيري ما أشعر أنا به.
ومشربة أم إبراهيم تقع بالعالية من ضواحي المدينة، وقد يكون تجوزا نسبتها إلى قباء وطريقها، فأنت تسير إليها من المدينة سالكا طريق قباء حتى تبلغ ملتقى وادي بطحان بوادي رانوناء؛ إذ ذاك تتياسر مع وادي بطحان متجها إلى شرق المدينة ميمما وادي مذينب ووادي مهزور، والعوالي تقع بين هذين الواديين، هناك يأخذ بنظرك مسجد قائم بين خضرة نضرة وزرع بهيج، وبيئة طبيعية تثير في النفس ذكرى البيئة المصرية، وهذا المسجد يقوم اليوم حيث كانت تقوم المشربة في عهد رسول الله.
أفأقامت مارية بالمشربة مذ أهداها المقوقس إلى رسول الله، أما أقامت بها بعد مولد إبراهيم أو قبيل ذلك بعد الحمل به؟ لم يرد عن ذلك نبأ صريح، وكتاب السيرة الذين يجيبون عن هذه المسائل يذهبون في جوابهم مذهب الظنون، وأحسب مارية أقامت بالمشربة بعد قليل من مجيئها من مصر، وأنها ظلت بعد ذلك بها، وأحسبها أقامت بها قبل أن تسلم، فهي إنما أسلمت بعد حملها - أو بعد مولد إبراهيم - ولذلك لم تضم إلى أزواج النبي، ولم تكن أول أمرها بين أمهات المؤمنين، فلم تبن لها حجرة إلى جانب حجراتهن، ولعل النبي حباها بها إكراما لها؛ لأنه
صلى الله عليه وسلم
كان كريم الطبع؛ ولأن مارية كانت يومئذ نصرانية، وأقرب الناس مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى، ولعله اختار لها هذا المكان مقاما؛ لأنها ألفت فيه شبها بطبيعة بلادها.
अज्ञात पृष्ठ