من أحاديث تؤيد أن المسيح سيدفن به، ولست أريد أن أخوض مع الخائضين في هذا الأمر، وكل ما أذكره أن النبي لم يعين مكانا يدفن به؛ ولذلك اختلف أصحابه: أيدفن بمكة أم ببيت المقدس؟ ثم اتفقوا على دفنه بالمدينة حين قال أبو بكر: إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض.» ولم يكن بدار عائشة يومئذ قبر، ولم يحفر بها قبر غير قبر النبي إلا بعد أن دفن أبو بكر وعمر، ولم يذكر رسول الله أنهما سيدفنان بها، ولم يكن أحد يعلم ذلك، بل لقد دفن عمر بها بعد أن سأل عائشة أن تأذن به، وبعد أن آثرته عائشة على نفسها فأذنت أن يدفن في دارها.
تجدد بناء الحجرة بعد ذلك غير مرة، ولقد أشرت إلى شيء من ذلك حين الحديث عن المسجد النبوي وتجديد بنائه على أثر الحريق الذي أصابه في القرن السابع، وامتد إلى الحجرة كما امتد إلى المسجد كله، وعلى أثر الصاعقة التي نزلت به في أواخر القرن التاسع الهجري، ولقد عدل بناء الحجرة أثناء ذلك فخمست بعد أن كانت مربعة، وزيد عليها ما لم يكن منها حين بناها عمر بن عبد العزيز، يقول السمهودي في حديثه عن عمارة القرن التاسع: «إن متولي العمارة ومن كان معه خبروني أنهم وجدوا عند نقض جدار البيت الشامي - أي: الشمالي - من داخله رأس جدار في محاذاة الأسطوانة المذكورة يشهد الحال أنه كان آخذا من الشامي إلى ما يحاذيه من القبلة، فكأنه كان نهاية الحجرة الشريفة من جهة الشرق، وكأنه لما انهدم زيد فيها ذلك القدر، قالوا: ولا يخفى على الناظر أن بقية الجدار الشامي مما يلي الشرق لم تبن مع الجانب الآخر منه، بل هي ملصقة إلى رأس الجدار المذكور بحيث لم تدخل أحجار أحدهما في الآخر ولا هي مرتبطة كما هي عادة البناء الواحد، ورأيت أنا ما يقابل هذا الجانب من الجدار القبلي مما يلي الشرق، فرأيت ما يشهد بإحداث بنائه بحيث إنه مبني بالحجارة غير الوجوه كنسبة الجدار الشرقي بخلاف بقية جدارات الحجرة الشريفة فإنها كلها من داخلها وخارجها مبنية بالحجارة الموجودة المنحوتة، وأنا لم أشاهد ما قدمته مما حكي لي في أمر الجدار الشامي؛ لأنني اجتنبت حضور الهدم احتياطا لنفسي.»
1
ويقص السمهودي في فصل عقده وجعل عنوانه «فيما تجدد من عمارة الحجرة الشريفة في زماننا على وجه لم يخطر قط بأذهاننا، وما حصل بسببه من إزالة هدم الحريق الأول من ذلك المحل الشريف ومشاهدة وضعه المنيف وتصوير ما استقر عليه أمر الحجرة في هذه العمارة.» - يقص صورة ما حدث في عهده حين جاء شاهين الجمالي إلى المدينة منصرفه من جدة فأراه وجوهها ما تكسر من أخشاب المسجد، وأروه ما في الحجرة من تصدع قديم في جدارها الشمالي، رأى معه إصلاح عمدها وإعادة بنائها، وقد اختلف يومئذ في ضرورة ذلك، ورأى كثيرون الخير في عدم التعرض له ما دامت الحاجة لا تدعو إليه، لكن شاهينا وزير سلطان مصر الأشرف قايتباي، كان له غرام بإصلاح الحرمين لا يعدله غرام ؛ لذلك كان دائبا على تعمير ما يرى الخير في تعميره منهما، فلما استقر الرأي على تعمير المسجد والحجرة بدءوا بإزالة ما كان من تراب الهدم الذي سقط بها حين الحريق الذي وقع في القرن السابع، يقول السمهودي: «بعث إلي متولي العمارة لأتبرك بمشاهدة الحجرة الشريفة بعد تنظيفها، وصار قائل يقول: ظهر القبر الشريف، وقائل يقول: لم يجدوا لجميع القبور الشريفة أثرا، فحثني داعي الشوق وغلبة الوجد، واستحضرت ما وقع لبعض السلف من سؤاله عائشة - رضي الله عنها - أن تريه القبور الشريفة ... فعزمت على الإقدام وتمثلت بقول بعضهم:
ولو قيل للمجنون: أرض أصابها
غبار ثرى ليلى لجد وأسرعا
لعل يرى شيئا له نسبة بها
يعلل قلبا كاد أن يتصدعا
अज्ञात पृष्ठ