كنت أحاور الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في هذا كله ونحن وقوف على الهضبة التي اشتهرت باسم جبل الرماة، نسبة إلى رماة المسلمين في أحد، والتي تسمى جبل عينين، فقد أشار لي إلى مكان بأسفل هذا الجبل قال: إنه موضع المصرع، وأشار إلى موضع من أحد وقال: إنه المهراس الذي احتمى به رسول الله بعد فرار المسلمين حين خالف الرماة أمره وبرحوا مكانهم، فحل خالد بن الوليد على رأس فرسان قريش محلهم فيه، وعجبت أن يكون المصرع بأسفل هذا الجبل، إلا أن يكون وحشي اغتال حمزة بعد أن أخلاه المسلمون وأسرعت إليه خيل قريش فسار وحشي على أثرهم.
ووقفت أصور ميدان المعركة كيف كان، فقد جاءت قريش من مكة إلى المدينة في الطريق الموازي لشاطئ البحر الأحمر، ثم انعطفت مشرقة إلى ناحية قباء وذي الحليفة من جنوب المدينة، واتخذت طريق وادي العقيق إلى شمالها، حتى كانت عند البساتين والزروع القائمة أسفل أحد فعسكرت، وخرج المسلمون من المدينة بعد الذي كان بينهم من جدل: أيتحصنون بها أم يلقون المشركين في الميدان الذي اختاروه، ونزلوا قبالة قريش عند أحد وجعلوه إلى ظهورهم، وأمر النبي خمسين من الرماة أن يلزموا هذا النتوء من «سلع» ويصدوا فرسان قريش، وقال لهم: «احموا لنا ظهورنا فإنا نخاف أن يجيئونا من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، إنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل؛ فإن الخيل لا تقدم على النبل.» فلما دارت المعركة وحالف النصر المسلمين في أولها بعد أن قتل أصحاب اللواء من المشركين، تبع المسلمون عدوهم في فراره يضعون فيه السلاح وينتهبون ما خلف من غنيمة، وهنالك برح الرماة مكانهم ليكون لهم من الغنيمة نصيبهم، فاهتبل خالد بن الوليد الفرصة فشد برجاله على مكان الرماة فأجلى من بقي منهم وصاح صيحة أدركت قريش معها ما فعل، إذ ذاك عاد منهم كل منهزم فأثخنوا في المسلمين ضربا وقتلا، وتمزقت صفوف المسلمين وصاح صائح بالناس: «إن محمدا قد قتل!» وتشجع المشركون حين سمعوا نبأ قتله، وكان رسول الله قد أصابه حجر رماه عتبة بي أبي وقاص فوقع لشقه فأصيبت رباعيته وشج في وجهه، وكلمت شفته ودخلت حلقتان من المغفر الذي يستر به وجهه في وجنته، وسار كبار المسلمين من حوله يدفعون عنه، فصعد أحدا واحتمى بشعب من شعابه في جوار المهراس الذي كانت تقوم عليه قبة اشتهرت باسم قبة الثنية ثم هدمها الوهابيون، وقد سميت تلك القبة بقبة الثنية لما قيل من أن ثنية رسول الله وقعت عندها.
وألقيت نظرة إلى ناحية أحد فذكرت قول رسول الله عنه: «هذا جبل يحبنا ونحبه.» واستقر نظري على صخوره الحمراء وعلى الرءوس الكثيرة الناتئة على سطحه، قال الأستاذ عبد القدوس: يخيل إليك أن أحدا أحمر الله كله، أما أنا فقد وجدت فيه حين تنقلت بين شعابه وقننه وهضابه صخورا وعروقا مختلفة الألوان، يضرب بعضها إلى الزرقة، وبعضها إلى الخضرة، ومنها الأسود الإثمدي، والرمادي لون التراب، وقد ذكر لي صديق أنه عثر فيه بحجر من الإثمد زنته مثقالان، وآخر زنته سبعة مثاقيل، وأن صديقا له عثر بحجر كبير كسره فانفلق عن زبرجدة عظيمة الحجم، ولطالما تساءلت: أكشف عن شيء من هذه النفائس بأحد في عصر خلا؟ ولم أجد جوابا فيما قرأت من كتب تاريخ المدينة، ولست أدري أتيسر الأقدار لأهل هذا الجبل أن يقوموا من ذلك بما لم يقم به أسلافهم؟
لم أقف طويلا عند هذا الحديث عن طبيعة الصخور في جبل أحد، فلقد كنت أحرص على معرفة الطريق الذي سار فيه النبي نجاة بنفسه من أعدائه بعد أن خالف الرماة أمره، ونزلنا على جبل الرماة ومررنا على مقربة من قبر حمزة وقبور الشهداء، وتخطينا إلى أحد، وسرنا أثناءه بين صخور ضخمة تلوينا خلالها هنيهة، فإذا نحن قد ابتلعنا الجبل فحجبنا عن كل ما وراءه، لم يبق أمامنا وادي قناة ولا جبل سلع ولا هضبة الرماة، بل كنا خلال جبل تتلوى الطرق على سفوحه إلى حيث لا أدري، قال عبد القدوس بعد أن سرنا زمنا: هذا المهراس الشرقي الذي جيء للنبي
صلى الله عليه وسلم
بالماء منه يوم أحد، قلت: وما المهراس؟ فكان جوابه: تلك نقر كبار وصغار يجتمع فيها ماء المطر، وكان النبي في الشعب القريب من هذا المهراس حين جاءه علي بن أبي طالب بماء يروي به ظمأه؛ ووجد بالماء ريحا فكرهه ولم يشرب منه، وإن غسل به الدم الذي أصابه أثناء المعركة، وصمت هنيهة ثم أردف: وهذا، هنا المهراس الشرقي، وثم مهراس غربي طريقه وعر لا سبيل إلى ارتقائه إلا بتسلق بعض الصخور، ولم يرد في أنباء التاريخ أي المهراسين جيء منه بالماء لرسول الله، لكن بيتا من الشعر لعبد الله بن الزبعرى يدل على أنه هذا المهراس الشرقي، ذلك قوله:
فسل المهراس من ساكنه
بين أقحاف وهام كالحجل
والمهراس الغربي لا سبيل إلى أن ترتقيه الأفراس لوعورته وملاسة صخوره، أما وابن الزبعرى يشير إلى المهراس الذي جيء بالماء للنبي منه فهو إذن هذا المهراس الشرقي لا ريب.
عدنا بعد ذلك أدراجنا نقصد الوادي لنستقل سيارتنا إلى المدينة، واستوقفنا جند من النجديين يقيمون ببنية موضعها بين القبور والمصرع، فدعينا إلى قهوة وشاي عندهم، وتناول الحديث أثناء ذلك في كلمات مقتضبة هؤلاء الذين مررنا بهم من زوار حمزة وشهداء أحد، فهم اليوم يقفون يصلون ويستغفرون، وكانوا قبل العهد النجدي يجدون في القبة وفي المسجد وسيلة للزلفى وللعبادة، ويقيمون لذلك مع من يخرجون إلى هذا المكان من أهل المدينة ثلاثة أيام تنصب فيها سوق وتجري فيها تجارة، ولا بأس بأن يقع أثناءها لهو ومجون، وانطلقنا بعد الشاي والقهوة نلتمس سيارتنا؛ فلم يحل انطلاقنا بيني وبين الالتفات إلى وراء لألقي نظرة أخيرة على قبر حمزة ولأحيط كرة أخرى بهذا الوادي المترامي الأطراف إلى جوار عرين الأسد، ولأرى فيه المسجد الذي يسمونه المستراح، ويذكرون أن النبي كان يستريح موضعه إذ كان يزور مثوى الأسد، وعدت من بعد إلى التفكير في الاستشهاد والشهداء، وفي حمزة الذي مات فداء لدين الله وللمسلمين إخوانه فيه.
अज्ञात पृष्ठ