اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
وكانت المناخة قبل حجة الوداع وأول ما جاء الرسول إلى المدينة سوقا لبني قينقاع من اليهود الذين اتخذوا منازلهم على مقربة منها، وكانت سوقا للمدينة كلها حتى استحر الخلاف بين المسلمين واليهود، فتحولت السوق عنها، وبنو قينقاع من اليهود هم أول من تحرش بالمسلمين في المدينة، فنشبت العداوة والبغضاء بينهم وبين اليهود، فقد كان بنو النضير وبنو قريظة يقيمون خارج المدينة فيما وراء موقع الخندق من قبل أن يحفر الخندق، أما بنو قينقاع فكانوا يقيمون بين أهل المدينة، وكان لهم فيها من سلطان المال ما لليهود حيث نزلوا من أقطار العالم.
وكان أول ما بدأت الخصومة بين اليهود والمسلمين بعد انتصار المسلمين في غزوة بدر، أما قبل بدر فكان اليهود يدسون بين المسلمين يحاولون الوقيعة بينهم لتبقى لهم هم الكلمة العليا، فلما رأوا كلمة المسلمين تعلو ومكانتهم في شبه الجزيرة تستقر وتهاب خافوا المغبة، فأتمروا وجعلوا يغرون بمحمد وأصحابه، ويرسلون الأشعار في التحريض عليهم، ولم يطق المسلمون ذلك منهم، فاندفع شباب الأنصار فقتلوا أبا عفك وعصماء من المنافقين وكعب بن الأشرف من اليهود، عند ذلك اشتدت مخاوف اليهود ولم يبق منهم من يأمن على نفسه، لكنهم شعب طويل الأناة، كثير المكر، ذو مرة في العناد، أما وقد رأوا أن المسلمين لا ينجح معهم الدس والوقيعة فليرهبوهم بالسخر منهم لعلهم يرجعون.
أرادوا امرأة مسلمة جاءت سوقهم تصلح حلية لها عند صائغ منهم على كشف وجهها فأبت، وجاء يهودي من خلفها على غرة منها فأثبت طرف ثوبها بشوكة إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها، فصاحت، إذ ذاك وثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، وأراد رسول الله حسم الشر فطلب إلى اليهود أن يكفوا عن أذى المسلمين وأن يحفظوا عهد الموادعة الذي عقده معهم أو ينزل بهم ما نزل بقريش، وكان جواب بني قينقاع: «لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.» فلما سمع النبي ذلك منهم حاصرهم خمسة عشر يوما لم يخرج منهم أحد ولم يدخل عليهم بطعام أحد، فلم يبق لهم إلا النزول على حكم محمد والتسليم بقضائه، وقام عبد الله بن أبي - وكان لليهود كما كان للمسلمين حليفا - فطلب إلى محمد أن يعفو عنهم وأن يعفيهم من القتل، وانتهى الأمر بعد خلاف أن غادروا المدينة إلى وادي القرى ثم إلى أذرعات على حدود الشام وعلى مقربة من أرض المعاد.
تذكرنا المناخة بهذا الحادث في حياة المدينة على عهد الرسول وبما ترتب عليه من جلاء اليهود عن المدينة، وما كان بعد ذلك من جلاء اليهود عن بلاد العرب كلها، ويدعونا هذا الحادث إلى التفكير، أيهما خير لحياة أمة من الأمم: أن تكون على عقيدة واحدة ودين واحد، أم يترك فيها أمر العقيدة جانبا فلا بأس بأن تتعدد فيها الأديان والمذاهب؟ والجواب أن الناس في العصور كلها قد حرصوا على أن تكون الأمة رأيا واحدا في دينها وعقيدتها كفالة لأمنها وسلامها، وحيثما تعددت الأديان وتشعبت المذاهب كان ذلك مبعث الثورة والاضطراب، ولا يزال الناس من أهل عصرنا على هذا الرأي، وإن عبروا عنه بما سموه حرية العقيدة، وهم إنما أرادوا بهذا التعبير أن يهونوا من حدة التعصب وما كان يؤدي إليه من سفك الدماء لاختلاف مذهبي قد يكون أهون أمرا من أن يختصم فيه رجلان، بله أن تزهق بسببه أراوح وأن تضطرب له حياة الجماعة.
والواقع أن تعدد الأديان في الأمة الواحدة قد كان أبدا مثار منازعات دموية أو غير دموية لها في حياة الأمم أسوأ الأثر، وليس ينسى أحد مذبحة «سان بارتلمي» في فرنسا ولا حروب البروتستنتية والكثلكة قبلا، ولن ينسى أحد ما وقع في عهود كثيرة بين إنجلترا واسكتلندا بسبب الخلاف الديني، وعالمنا اليوم - ومنذ عشرات من السنين - يضطرب بنزعة العداوة لبني إسرائيل مصورة في صورة عداوة السامية، ويصلى من ذلك ويلات وأهوالا، ولقد عانت فرنسا من حادث «دريفوس» وقضيته أشد العناء، وهذه ألمانيا في هذا القرن المتمم للعشرين قد أجلت اليهود عنها وضربت بينهم وبينها حجابا، وكانت في شأنهم أشد تطرفا مما كان محمد والمسلمون الأولون في بلاد العرب، وما تحاوله إنجلترا اليوم من إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين على كره من أهلها ليس إلا مقدمة لإجلاء اليهود عن إنجلترا، وهي مقدمة يدركها تمام الإدراك من عرف السياسة الإنجليزية ومراميها البعيدة وأساليبها الخفية، وهذا كله ينهض دليلا على أن العقيدة أساسا للحياة الاجتماعية أكبر شأنا من الأساس الاقتصادي، وأن تفكيرنا الحاضر في هذا الشأن لم يخالف تفكير من سبقنا، وأن ما نسميه حرية العقيدة قد يصدق بالنسبة للفرد فيما بينه وبين نفسه، لكنه لا يزيد في أمر الجماعة على أنه ثوب رياء قد يواري ما تحته وإن لم يخف الحقيقة التي لم تختلف على الأجيال.
والذين يلبسون تفكيرهم ثوب الرياء يتهمون غيرهم بالتعصب، وهم - علم الله - أشد الناس تعصبا لآرائهم وعقائدهم، وما نعيبهم بذلك، وإنما نعيبهم بنفاقهم، ولو أنهم آثروا الصراحة وأنصفوا لقالوا الحق من أن وحدة العقيدة هي المظهر الأول للحياة الاجتماعية، وأن هذه الوحدة تكون أساسا صالحا حقا ما قامت على إدراك وفهم، لا على تقليد جامد يمسك صاحبه في ظلم الضلالة ويأبى أن يخرج به إلى نور اليقين ليسلك سبيله التي تؤدي إلى صراط الله المستقيم.
وإنما تقوم الحياة على هذا الأساس الصالح المتين يوم يسمو الإنسان في صلته بالإنسان إلى التفاهم عن طريق المجادلة بالتي هي أحسن، والقصد إلى الحق بالدليل والحجة البالغة، مع الحرص على بلوغ هذا الحق والمصارحة بالاقتناع به متى حدث هذا الاقتناع، وما تزال الإنسانية - مع الشيء الكثير من الأسف - بعيدة عن أن تقيم صلاتها على هذا الأساس، وهي ما تزال تلجأ إلى القوة تعتبرها وسيلة مجادلة وسبيل إقناع، وما دام ذلك شأنها فلن يتهيأ لها من وحدة العقيدة بين أهل الأمة الواحدة ما يقيم علاقات الأفراد فيها على أساس من الإخاء الصحيح وحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، وهذا ما فطن الإسلام له؛ ولهذا وضع القواعد لمعاملة أهل الذمة وأهل الكتاب وأجارهم، وجعل لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم فيما لا يتصل بالعقيدة وما ترتبه على المؤمنين بها من جهاد في سبيلها، وما تنشئه لذلك من تكاليف وحقوق عامة.
تذكرنا المناخة سياسة المسلمين واليهود بعضهم إزاء بعض، وتنشر المدينة القديمة أمامنا بما فيها من دور ومساجد وآبار وأمكنة أثرية حياة المسلمين في عهد النبي وخلفائه الراشدين وحياتهم أيام كان الإسلام يصور للإنسانية حضارتها وينشرها في الخافقين، وما تنشره من ذلك في عهد النبي عظيم حقا، بالغ غاية الجلال، فقد رأيت من حديث دورها حول المسجد ما قصصت عليك، وما تروي الكتب من مستفيض أنبائه يزيد الصورة التي تنشرها المدينة أمام الذهن وضوحا، ويزيدها لذلك جلالا ومهابة.
وأقرب هذه الآثار إلى المناخة مسجد الغمامة، فأنت ما تكاد تتخطى باب العنبرية داخلا إلى المدينة حتى تراه أمامك، بل إنك لتراه وأنت ما تزال خارج المدينة، فهو اليوم مبني بناء متقنا، وله قباب ست تلفت النظر، ومئذنة قصيرة يسترعى قصرها الانتباه إذ يقرنها إلى مآذن المسجد النبوي السامقة في السماء؛ ولهذا المسجد فضلا عن اسم الغمامة اسم المصلى، ذلك بأن رسول الله كان يصلي العيدين في المكان الذي يقوم به، وظل على ذلك إلى أن لاقى ربه، لكن هذا المكان لم يكن في ذلك العهد مسجدا، بل كان فضاء من الأرض شأنه شأن سائر المناخة، ويذكر السمهودي رواية عن ابن شبة عن أبي عثمان الكناني أحد أصحاب الإمام مالك بن أنس أن المصلى بني مسجدا في القرن الثاني للهجرة.
अज्ञात पृष्ठ