ولقد حاول غير واحد من أولي البأس والسلطان في عصور مختلفة أن يصرفوا الناس عن هذا البيت فذهبت كل محاولاتهم هباء، ذلك بأن فكرة التوحيد تستقر في أعمق الروح الإنسانية وإن اختلفت مظاهر العقائد التي تدين بها جماعاتها، وهذه المحاولات إنما دفع إليها التنافس التماسا للغلب المادي في الحياة الدنيا، والتوحيد لا يعرف التنافس ولا يرقى إليه الغلب؛ لأنه يسمو بطبعه فوق كل غلب، والتنافس على المادة من مظاهر هذه الحياة الدنيا وأعراضها الزائلة التي لا تتعلق الروح ولا الفكرة بها، بذلك بقي البيت العتيق رمز التوحيد، لم تعد على الحقيقة العليا التي يصورها أوهام الحياة، ولم تخفها الأكداس التي رانت عليها زمنا حين كانت الوثنية الجاهلية صاحبة الغلب؛ لأنها تسمو على الزمن ولا تأبه لما يجيء وينقضي مما لا بقاء له؛ ولأنها أزلية خالدة، فرمزها باق لذلك بقاء الخلود.
كان تبع بن حسان ملك ملوك حمير عائدا من حرب شن غارتها على الأوس والخزرج بيثرب، فلما كان على مقربة من مكة حدثته نفسه بهدم الكعبة - وكان يهوديا - فمنعه من كان معه من أحبار اليهود أن يهدم بيت التوحيد، فكساه وعاد إلى بلاده.
وبنت غطفان في القرن الأول قبل الهجرة حرما كحرم مكة وحاولت أن تصرف العرب إليه، وبلغ ذلك ملكا على العرب اسمه زهير بن حباب فقال: «لا والله، لا يكون ذلك أبدا وأنا حي.» واتبعه قومه حين قال لهم: «إن أعظم مأثرة ندخرها عند العرب أن نمنع غطفان من غرضها.» وقاتل غطفان وظفر بهم وأبطل حرمهم.
فلما استقل أبرهة الأشرم قائد نجاشي الحبشة بأمر اليمن، سولت له نفسه أن يقيم بصنعاء بيتا للنصرانية يصرف به العرب عن بيت مكة، وبنى القليس بها وزخرفه وجلب إليه فاخر الأثاث، وظن أنه صارف أهل مكة أنفسهم عن بيتها، فلما رأى العرب جميعا لا يتجهون إلا إلى البيت العتيق، ورأى أهل اليمن يذرون القليس ولا يعتبرون حجهم مقبولا إلا بمكة، تهيأ للحرب في جيش من الحبشة تقدمه على فيل عظيم وسار يريد هدم الكعبة ، وبلغ مكة وأنذر أهلها أن يخلوا بينه وبين البيت ليهدمه، وأخلى أهل مكة مدينتهم، وأصبح أبرهة يريد أن ينفذ عزمه، فإذا جيشه قد تفشاه مرض الجدري وبدأ يفتك به فتكا ذريعا، وأصيب أبرهة بما أصيب به قومه، فعاد أدراجه إلى اليمن فزعا؛ وبلغ صنعاء وقد تناثر جسمه من المرض ولم يقم إلا قليلا حتى لحق بمن مات من جيشه؛ وصدقت كلمة عبد المطلب جد النبي: «إن للبيت ربا يحميه.»
ولقد فشت الدعوة القرمطية بالعراق على عهد العباسيين، وجعل أصحابها يرمون بالكفر من لم يكن على مذهبهم في موالاة محمد بن الحنفية ابن علي بن أبي طالب، وكان أبو طاهر القرمطي أول من ظهر من هؤلاء الدعاة في أيام المقتدر العباسي، ولقد بنى أبو طاهر دارا في هجر، من مدائن البحرين، سماها دار الهجرة، وأراد أن ينقل الحج إليها، وكان يقصد الطرق المؤدية إلى مكة ويفتك بحجاج البيت الحرام، بل سارت عساكر القرامطة في جيش لجب إلى مكة أيام الحج، ودخل أبو طاهر الحرم ووضع السيف على بغتة من الناس في الطائفين والعاكفين والركع السجود، وقتل نحو ثلاثين ألفا بمكة وشعابها، واقتلع باب الكعبة وجرده مما كان عليه من صفائح الذهب، بذلك دب الرعب في القلوب، وصار الناس لا يجدون إلى الحج سبيلا آمنا فانقطعوا عنه؛ لكنهم لم ينصرفوا إلى دار هجر، فلما مات أبو طاهر ورأى قومه العبث في محاولته تحويل الحج عن الكعبة أعادوا الحجر الأسود إلى مكة، وكان أبو طاهر قد نزعه من الكعبة وأخذه معه، وعاد الحج إلى بيت الله كما كان.
ولما اهتم عبد الملك بن مروان بعمارة قبة الصخرة في جوار المسجد الأقصى، وبالغ في زخرفتها ظن بعضهم أنه يفعل ذلك ليصرف أهل مصر والشام إلى حج القبة والمسجد الأقصى، وذلك إذا تمت الغلبة لابن الزبير فرد الملك إلى الحجاز وإلى أهل بيت النبي، أما وقد تمت الغلبة لبني أمية وبقي الناس يحجون البيت العتيق، ويولون وجوههم شطره فالمسلمون في ريب مما نسب إلى عبد الملك بن مروان من هذه المقاصد، وهم كذلك في ريب مما ظنه بعضهم من أن المنصور العباسي بنى القبة الخضراء إلى جوار قصر الذهب الذي شاده ببغداد، وأنه بالغ في زخرفتها ليولي الناس وجوههم شطرها؛ إذ لم يرد في التاريخ من أعماله ما يؤيد هذا الظن.
وإنما باء أبرهة ومن سبقه ومن لحقه بالإخفاق في مآربهم من صرف الناس عن بيت الله؛ لأنهم كانوا يرمون من ورائه إلى غاية سياسية، والغايات السياسية موقوتة مصيرها إلى الزوال؛ وهي لذلك لا تستند إلى أساس ثابت في قرارة النفس الإنسانية، ولا تمثل المعنى الروحي ولا الحقيقة العليا التي يتعلق بها الفؤاد ويتوق إليها القلب، يستوي في ذلك قلب الساذج وقلب العليم، ونفس الغوي ونفس الطهور، أما فكرة التوحيد التي يقوم هذا البيت العتيق رمزا لها فهي الفكرة الخالدة المبرأة من الهوى، والتي تمثل الحقيقة في أسمى صورها؛ ولذلك تتحطم على جوانبها كل محاولة ترمي إلى إفسادها ثم يبقى رمزها خالدا تتعلق به القلوب وتتوجه إليه الأبصار من أقطار الأرض جميعا.
دار ذلك بخاطري وأنا بمجلسي من فيء المسجد أرنو بعينين سعيدتين إلى هذه البنية التي رنا إليها خاتم الأنبياء والمرسلين، والتي رفع أبو الأنبياء خليل الله قواعدها، وانقطعت عن التفكير هنيهة كأنما كنت أهضمه أثناءها وأسيغه وأستمتع بجماله وسحره، وإني لكذلك إذ أشرق أمام بصيرتي نور خلته منبعثا من هذه الكعبة المشرقة القائمة أمامي، وخلتني أقرأ خلال هذا النور وأحدث نفسي بما يلي: «الآن أدركت لماذا حرم الله مكة وجعلها مدينة السلام لا يحل فيها القتل والغزو والأسر، ولا يحل فيها سفك الدم ولا التعرض لصيدها أو نباتها أو حيوانها، وأدركت لماذا قال - عليه الصلاة والسلام - وهو يخطب الناس يوم الفتح: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام من حرام من حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد فيها شجرا.» ذلك بأنها رمز التوحيد وبيتها هيكله، والتوحيد سلام لذاته، ولا سلام إلا أن يجمع الناس على الإيمان به، فأما التعدد فتنافس ولو في الخير، والتنافس نضال، والنضال حرب.
فإذا جاز لبلد في العالم إذن أن يكون مدينة السلام فذلك مدينة التوحيد، بالتوحيد تتوجه الإنسانية كلها إلى وجه واحد، هو وجه الله - جل شأنه، فإذا صدقت في توجهها إليه تحاب بنوها، وسموا بالحب فوق المنافسات، وما تجر إليه المنافسات من حقد وبغضاء وتحاسد، وبرءوا مما تدفع هذه العواطف الدنيا إليه من تنابز بالألقاب، وتكاثر بالأموال، وتسابق إلى الجاه والسلطان، وكيف يهوي إلى هذا الدرك من يبغي وجه الله وحده، ومن يجعل تقوى الواحد الأحد رداءه في أعماله وأقواله ودخائل نفسه؟! وكيف يهوي إلى هذا الدرك من يكمل إيمانه فيحب لأخيه ما يحب لنفسه، وكيف لا تسمو الإنسانية إلى مقام الحب والسلام إذا آمنت بالتوحيد وجعلته سنتها، وجعلت بيت الله رمز التوحيد قبلتها؟! ألا ما أبلغ هذه العبارة التي يرددها الإنسان من أعماق قلبه أول ما يدخل الحرم ويستقبل الكعبة لطواف القدوم: «ربنا، منك السلام وإليك السلام، فحينا ربنا بالسلام.» ما أبلغ هذه العبارة وما أعمق معناها وما أعظمها سموا لقوم يعقلون! اللهم هداك خلقك وزدني تثبيتا وإيمانا.»
وانطلقت أفكر بعد أن أتممت هذا الحديث النفسي: لقد أفضيت أول ما نزلت بالبلد الحرام إلى وزير المالية وإلى الملك ابن السعود برأيي أن تكون مكة مقرا لعصبة الأمم الإسلامية، وهذا واجب تقضي به حياة المسلمين في عالم اليوم، ولكن! ترى لو أن الإنسانية كلها التمست يوما مقرا لعصبة الإسلام، أفتجد خيرا من مكة بلدا ليكون هذا المقر؟! لقد اختارت عصبة الأمم الأوروبية جنيف من أعمال سويسرا مقرا لها؛ لأن سويسرا محايدة، ولقد طمعت عصبة الأمم الأوروبية في أن تقر السلام فيما بينها عن طريق التفاهم في جنيف وإن لم تفز بإقرار السلام في ربوع العالم مما وراء أوروبا، إلا أن يهدد اضطراب السلام مصالح الأمم الأوروبية، ولقد بذلت الدول المشتركة في العصبة جهودا كبيرة في سبيل السلام، فقررت وسائله في عهد العصبة وفي ميثاق التحكيم وفي محكمة العدل الدولية، وحاولت أن تجعل من التفاهم المشترك بينها جميعا حينا، ومن التفاهم الثنائي حينا آخر، سببا للاحتفاظ بالسلام، مع ذلك ذهبت جهودها هدرا، وباءت من مقاصدها السلمية بالخيبة، وارتدت إلى سياسة التسلح والسلام المسلح، وإلى النظرية القائلة بأن الاستعداد للحرب يمنع الحرب.
अज्ञात पृष्ठ