ودارت السيارة حول هذا الزرع البهيج ثم انطلقت مسرعة في الوادي، وما لبث ما حولنا أن تغير : ازداد الجو صفوا، والنسيم رقة وعذوبة وسرت إلى الصدور غبطة مسعدة ضاعفت نعمة الحياة، ذلك أثر الماء في مسيله والسيارة تحاذيه حينا وتجتازه حينا، ثم تعود إلى محاذاته ثم إلى اجتيازه، ونهبط منها بين آن وآخر حين يخاف السائق غوصها في الرمال ثم نعود إليها فرحين مطمئنين كما هبطنا منها، وتغوص في الرمل فيدفعها أصحابنا متضامنين خاضعين لأمر السائق الجالس على عرشه قابضا على مدارها، فإذا خلصت وآن لها أن تعود سيرتها قفزنها إليها في مرح دونه أي مرح، وانطلقت تسير في أرض خصبة خالية من الزرع إلا ما ندر.
ويذكر صاحبي أن وادي لية يمتد مستطيلا مدى خمسة وعشرين ميلا تقريبا، وأنه يبتدئ من ديار بني سفيان الثقفيين من الجهة الجنوبية وينتهي بخد الحاج من الجهة الشمالية، وأن أعلاه يسكنه الأشراف، ويسكن الزوران وعوف أسفله، والزوران قبيلة من هوازن، وعوف فخذ من ثقيف.
وسألت: كم بقي لنا لندرك السد السملجي؟ فعلمت أنا نتخطى وادي صخيرة إلى وادي ثمالة حيث يقوم هذا السد، قال صاحبي: «ويقيم بنو صخر بوادي صخيرة الذي نجتازه الآن، وهم بطن من ثقيف، ومنهم الحجاج بن يوسف الثقفي عامل عبد الملك بن مروان، ومن بقي اسمه علما على القسوة والفتك والتلذذ بمنظر الدماء، فقد كان يرى في كل جماعة يتولى أمرهم رءوسا أينعت وحان قطافها، لا فرق عنده بين صحابي وتابعي وأعجمي أسلم ولما يدخل الإيمان في قلبه»، وذكرت وأنا أسمع لصاحبي ما للبيئة في الناس من أثر؛ فأدرت طرفي يمنة ويسرة لعلي أستشف من خلال وادي صخيرة سر ما ركب في الحجاج من هذه الخلال، وخيل إلي أني أرى في طبيعة الوادي قسوة لم يكن شيء من مثلها في وادي لية، فقد انقطعت المياه وغاض مسيلها، ونتأت أحجار صم جلاميد، وخيم على الكون صمت ثقلت وطأته، لم أدر أهو الذي صاغ روح الحجاج من بطش وقسوة، أم أن مبعثه روح الحجاج وحديثنا عنه؟ وأنا لو لم نتحدث عن الحجاج لما نتأت صم الجلاميد في هذا المكان أكثر منها في أي مكان غيره، ولما ثقلت وطأة الصمت المخيم على الكون في أنحاء البادية جميعا، ولما كان انقطاع المياه غيض مسيلها آية غيض الرحمة من قلب الحجاج وانقطاع مسيلها إلى نفسه.
ونسينا صخيرة، والحجاج وبنيه وآباءه حين وقفت السيارة بنا في منقطع من الوادي، وأعلن سائقها أن وقودها وشيك النفاد، وأنا إن لم نتداركه بالرأي لم يعد يدري كيف السبيل إلى بلوغ السد ثم العود إلى الطائف، ولم يكن بيننا الجريء الذي يلقي عليه تبعة الإهمال في الخروج من المدينة إلى رحلة كرحلتنا هذه دون التزود من الوقود بأكثر من حاجته، فنحن الآن أحوج ما نكون إلى رضاه واتقاء غضبه، وهو رجل حاد المزاج، قد تدفعه حدته فيذرنا حيث نحن ساعات وساعات، وما عسى أن يجدي تحميله التبعة في بلوغ غايتنا والعود لنتم رحلتنا؟! قال السيد صالح القزاز: «لا عليك فهاهنا على مقربة منا كوخ لا يأبى أصحابه أن يبيعونا ما لديهم من بترول، وأحسبه يصلح مع ما بقي من بنزين السيارة لنطمئن به حتى عودتنا إلى الطائف.» وأشرقت أسارير الرجل، فانطلق بالسيارة غير بعيد ثم وقف عند كوخ قائم فوق ربوة بعيدة عن مسيل الوادي، ونادى بأعلى صوته لعل أحدا يسمعه ويجيئنا بالبترول الذي نبتغيه، وأجاب النداء صبي، فسألنا: ما نبغي؟ ثم أطلق ساقيه للريح يلتمس أهله حين علم أن في الأمر تجارة وربحا، وجلست وأصحابي فوق الصخور الناتئة حول السيارة حتى جاء أهل الصبي بصفيحة البترول وبكوز صغير معها هو الكيل الذي يبيعون به، وانطلقت السيارة الضخمة في طريقها فوق الصخور مطمئنة إلى وقودها وكفايته، تمتع معنا بجو الصبح الجميل، حتى بلغت السد السملجي ولما تكتمل الساعة التاسعة، وكنا إذ بلغناه قد تجاوزنا وادي صخيرة إلى وادي ثمالة، وتجاوزنا قسوة الطبيعة إلى ابتسامها بالزرع النضر والخضرة الباسمة، وآن لنا أن نطمئن إلى مكان نتناول فيه إفطارنا وقد زادت بكرة اليقظة وجمال الهواء وجهد الرحلة في شوقنا إليه وحرصنا على تناوله.
ولم نتردد في اختيار المكان ، فهذا السد أمامنا ضخم عريض السطح مرتفع يشرف على ما حوله، وهو فيما يبدو من أمره أثر تاريخي كان له في حياة هذه البلاد أثر بالغ، فلنصعد إليه ولنتخذ من سطحه مائدتنا، وتسلقنا أحجاره الضخمة كما يتسلق الناس الأهرام في مصر حتى استوينا فوقه، ثم سرنا حتى توسطنا سطحه، ونظرت عن يميني فإذا مجرى أشبه بمجرى النهر قد حصر بين شاطئين ولا ماء فيه، وعن يساري فإذا أرض مستوية استوت فيها الحنطة على سوقها ولما تحصد بعد، ومن أمامي ومن خلفي قام جبلان يحصران هذا الوادي الممرع الفسيح تتحدث أرضه بمعاني الخصب وقوة الإثمار، وإن لم يكن به من زرع إلا هذه الحنطة التي أرى، وجلسنا على الحجر ونشرنا عليه ما معنا من الزاد، ما كان أحلاه وأشهاه على بساطته وبداوته! أستغفر الله! لم يكن بدويا وقد كان بعضه «بسكوت» ومربى مجلوبين من إنجلترا، واشتركنا جميعا في تناوله، فكان في ذلك من مظهر الديمقراطية البدوية ما تستريح له النفس ويشعر المرء في أثنائه بالإخاء الإنساني الذي لا يعرف الطبقات ولا يعرف الحاكم ولا المحكوم، والذي يكمل به إيمان المرء إذ يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويدرك إدراكا عميقا صادقا أنا جميعا سواسية أمام الله وأنا جميعا عباده، لا فضل لأحد منا على صاحبه إلا بالتقوى.
اطمأنت معداتنا فقمنا نستأنف حديث السد والقبائل التي حوله، قال صاحبي: تقع ديار بني سعد حيث استرضع النبي على عشرة أميال من هذا المكان، وأغلب الظن أن قد جاء النبي في طفولته إلى هنا مع الرعاة من بني سعد بن بكر؛ فالرعاة لا يذرون مكانا به كلأ أو مرعى أيا كان نوعه دون أن يطرقوه، قال آخر: هذا احتمال قد يكون وقد لا يكون، وربما اعترض عليه بحق من يذكر أن رعاة بني ثمالة ما كانوا ليدعوا رعاة بني سعد يطئون أرضهم موفورين عن رضا منهم وطواعية، فقبائل البادية شديدة الحرص على حرمات أرضها، وهي أشد حرصا إذا كانت الأرض خصبة وكان فيها لذلك مطمع ، قال السيد صالح: دعوا عنكم هذا الحديث وتعالوا بنا نهبط إلى حيث الحنطة لنواجه السد، فيرى ضيفنا منه ما هو أجدى في بحوثه من كلام لا يتيسر لنا ها هنا تحقيقه، وأومأ صاحبي إيماءة الرضا عما قال السيد وتقدمنا كي نهبط السد، وسار الشريف حمزة الغالبي إلى جانبي كيما يعاونني إن احتجت إلى معونة.
وهبطنا إلى مزرعة الحنطة، واستقبلنا السد، فأخذت بنظرنا الأحجار الضخمة التي شيد منها، كما أخذ بنظرنا إحكام بنائه على عظمته وضخامته، فهو يبلغ نحو الثمانين مترا في طوله، والخمسة والعشرين مترا في ارتفاعه، أما عرض سطحه فيزيد على عشرة أمتار، وسألت عن تاريخ بنائه فقيل: إنه يرجع إلى عهد معاوية بن أبي سفيان في صدر الإسلام، وإن الحجة في ذلك هذه الكتابة المنقوشة على أحد أحجاره والتي لا تكاد تتضح، فقد نقلها عبد الله باشا باناجي بالفوتوغرافيا في أوائل هذا القرن وبعث بها إلى مصر حيث حلت رموزها، فإذا فيها: «أمر ببنائه عمرو بن العاص بأمر أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان.» هو يرجع إذن إلى ثلاثمائة وألف سنة خلت، لم يكن بناة الأهرام وحدهم إذن هم الذين عرفوا العظيم والضخم في العمارة، بل عرف أبناء بلاد العرب من ذلك ما عرف قدماء المصريين، فأقام أهل الطائف هذا السد كما أقيم سد مأرب في بلاد اليمن، وأقيم هذا السد في مسيل الوادي بين الجبلين كما أقيم سد مأرب لينتفع الناس بالمياه ولا يدعوها تذهب هدرا، كانت الغايات الاقتصادية والعمرانية هي التي أدت إلى إقامة هذا السد إذن كما أدت إلى إقامة سد مأرب، وهذه الغايات هي التي دعت بناته ليقيموه بالقوة والمتانة التي أقاموه بها من أحجار ضخمة يمسكها الملاط القوي على مجابهة الزمان، لا بد إذن أن قد كان في هذه البادية من أسباب العمران ما لا نرى له اليوم أثرا، ولا بد أن قد كان العرب في صدر الإسلام ينعمون بحضارة ننكرها اليوم عليهم؛ لأن أبناءهم أنكروها عليهم بإهمالهم إياها، بل أراني أميل إلى الظن بأن هذه الحضارة كانت قائمة ينعم بها أهل هذه البلاد قبل الإسلام، وأن الدين القيم قد نزل على قوم لهم من الحضارة هذا الحظ الأوفى.
وأدليت بما جال بخاطري من ذلك، فذكر السيد صالح القزاز: أن هذا السد أضخم سدود الطائف المعروفة، لكن بالطائف سبعين سدا غيره، ومنها ما يكاد يدانيه ضخامة وعظمة، من ذلك سد واقع في حمى سيسد المعروف بشرق الطائف، يقال: إن يزيد بن معاوية هو الذي أمر ببنائه، وآخر واقع بوادي ثنية بين الطائف ووادي محرم، وهذه السدود جميعها مخربة منذ أزمان بعيدة لا يعرف أحد من أبناء هذا الجيل عنها شيئا، ولم يخامرني ريب في أن تخريب هذه السدود هو الذي هوى بالطائف إلى حيث هي اليوم بعد أن كانت مضرب المثل في الخصب والمنعة، فقد كانت هذه السدود جميعا خزانات تحجز مياه المطر لفائدة الزراعة، فكانت المساحات الواسعة تستغل مزارع للحنطة والغلال والفاكهة وما إليها مما ترويه الكتب عن ثروة الطائف وعن مكانتها الاقتصادية، وكان ذلك سببا في العمران وانتشار السكان في هذه الأودية الكثيرة التي مررنا والتي لم نمر بها، أما اليوم فأنت لا ترى في هذه الأودية أثرا ظاهرا للعمران، وما يذكرونه عن ثمالة وصخر وثقيف وهذيل وأفخاذها وبطونها لا يزيد على أسماء تحيي في النفس ذكريات تاريخية ترجع إلى أيام الإسلام الأولى، وترجع إلى ما قبل الإسلام، فإذا أردنا أن نلتمسها اليوم لم نجد إلا نجوعا منثورة ها هنا وهناك يقيم فيها من الأعراب من لا يزيدون عن البدو الرحل رقيا ولا تحضرا، ومن جنوا بتأخرهم على ما كان لهذه الحضارة الزاهرة في صدر الإسلام من مكانة لا ينكرها أحد.
وأردف السيد صالح: ولم تكن مياه هذه السدود مقصورة فائدتها على إمداد الزراعة المتصلة بها، بل كان لها فائدة أخرى لا تقل عن حجز الماء وقد تربو عليه؛ ذلك أنها ترفع ماء العيون والآبار في المناطق التي لا تصلها مياه السدود، فتجعل الري من هذه الآبار والعيون هينا ميسورا، والعمران يزدهر حيثما وجد الماء فجعل كل ما حوله حيا؛ لذلك كانت بادية الطائف عامرة كلها، وكانت الدور والقصور في هذه الأماكن التي نسمع اليوم أسماءها ولا نجد لها أثرا، وسترى مصداق ذلك اليوم حين نذهب إلى الهدة، وغدا حين نذهب إلى الشفا؛ إذ نسمع أسماء وردت في الشعر القديم على أنها موضع حضارة وأماكن عمران، وهي اليوم بادية ممتدة أمام النظر ليس فيها أثر لحضارة أو عمران، إلا ما يكون من رسم دارس يثير بقاؤه في النفس الأسى وفي القلب الحسرة.
علونا مزرعة الحنطة إلى الطريق لنستقل السيارة عائدين إلى الطائف في طريقنا إلى الهدة، ووقفنا إلى جانب السد ريثما يجتمع رفاقنا، وسألني صاحبي عن هذا السد ورأيي فيه، وسألته بدوري عن صحة اسمه: أهو السد السملجي أم السد السملقي؟ فهم ينطقونه جيما كجيم أهل القاهرة، وقافا كقاف أهل الريف في مصر؛ وكنت أميل إلى الظن بأنه السملقي، لا أدري لم؟ واختلف القوم وأصر أكثرهم على أنه السملجي واحتجوا بمقال نشره الأستاذ إبراهيم مصطفى أحد أساتذة كلية الآداب بالجامعة المصرية، وكان قد جاء إلى هذه المنطقة وزار هذا السد، وقال صاحبي حسما للخلاف: ليكن هذا أو ذاك فله اسمان آخران لا خلاف عليهما: سد ثمالة، وسد بني هلال، ولقد أعجبني هذا الرأي وصرفني عن الإمعان في تحقيق اللفظ ما عسى أن يكون الوجه الصحيح فيه.
अज्ञात पृष्ठ