لكن هذا الوليد المتآلف بدوره سرعان ما تنشأ فيه الأضداد وهلم جرا، وهكذا ترى العالم يسير في مراحل مثلثة الخطوات، فحالة مثبتة ذات خصائص معينة، تتلوها حالة تنفيها بأن تتحول إلى خصائص جديدة مختلفة كيفا، ثم يعقب هذا النفي نفسه حالة جديدة تنفيها، فتكون بمثابة نفي النفي، وهنا نعود إلى «إثبات » جديد ارتقينا فيه عن «الإثبات» الذي بدأنا به السير.
وقد نسأل: من أين جئنا بهذه القوانين الثلاثة التي تضبط سير العالم، أهي تصورات ذهنية أولية انبثقت من طبيعة العقل وفطرته، كما كان بعض الفلاسفة الآخرين يعتقدون في وجود مبادئ فطرية في العقل يجري التفكير على مقتضاها؟ أم هي استدلالات انتزعناها من مشاهدتنا الخارجية لمجرى التاريخ؟ والجواب عند الماديين الجدليين هو هذا، لا ذاك.
فليست مراحل السير الجدلي مقصورة على الفاعلية العقلية الصورية المنطقية وحدها - كما هي الحال عند هيجل - بحيث يكون الانتقال من «فكرة» إلى «فكرة» بل هي مراحل في سير الواقع المادي، كما نستطيع أن نستدله من شواهد التاريخ وتطور الجماعات.
وأصحاب هذا المذهب يصفون مذهبهم هذا بأنه الفلسفة العلمية بمعناها الصحيح، على أنهم حين يصفونه ب «العلمية» فإنما يستخدمون هذه الكلمة لتعني «المادية» - وعلى هذا تكون «المعرفة العلمية» هي الموقوفة على الواقع المادي وحده، مما ينتهي به إلى النتيجة القائلة إن كل ظاهرة لا بد من ردها إلى أصلها المادي لتتم لنا دراستها دراسة علمية، فالحالات العقلية والوجدانية ترد إلى ظاهرات فسيولوجية، وهذه بدورها ترد إلى أصول لا عضوية، وهكذا - على أن أهم ما يعنى به أنصار المادية الجدلية هو ردهم للتاريخ إلى العناصر الاقتصادية، وبهذا تصبح حقيقة الإنسان لا في وعيه بنفسه ولا في تأمله النظري الصرف - بل في «العمل» أي في نشاطه الاقتصادي، لكننا لو تركنا هذا النشاط ينطلق على أساس الملكية الفردية، نشأت بالضرورة طبقة تتجمع فيها رءوس الأموال وهي القلة القليلة، ويصبح معظم الناس أتباعا لتلك القلة يخدمونها بعملهم وإنتاجهم، وبهذا يحدث لهذه الأكثرية «انسلاخ» يبعدهم عن نتائج عملهم، فيبعدهم عن الحياة الطبيعية كما ينبغي أن تكون، ولا علاج لهذا إلا بأن تئول وسائل الإنتاج إلى ملكية المجتمع كله، فينتج المنتج لصالح الجماعة كلها وعندئذ تتحطم الحواجز بين الطبقات، وتزول الفوارق ليذوب الكل في طبقة واحدة.
تلك هي خلاصة الفلسفة المادية الجدلية، التي لا أظن أن مجتمعا واحدا في أرجاء الأرض بأسرها، قد خلا من التأثر بها تأثرا صغيرا أو كبيرا، وإذن فهذه ناحية أخرى من روح العصر.
لئن اختلفت الناحيتان الرئيسيتان اللتان ذكرناهما في أن الأولى تناولت روح العصر من جانب «المعرفة العلمية» على حين تناولتها الثانية من جانب «التاريخ والمجتمع» بما ينطوي تحتها من سياسة واقتصاد، فإن الناحيتين معا تتفقان في وجوب أن ينصرف اهتمام الفكر إلى العلم ومنهجه وقضاياه وتطبيقه باعتباره أبرز معالم العصر إطلاقا، ومثل هذا التركيز على العلم وعلى العقل وما يتبعهما من ظواهر كالتخطيط والتصنيع وانخراط الأفراد في عمل واحد مشترك وضعت لهم خططه وأهدافه، لم يكن ليمضي بغير تمرد ممن يحرصون على فردية الشخصية الإنسانية، وتمييزها من سائر ظواهر الطبيعة بالإرادة الحرة التي تختار لنفسها وتكون مسئولة عن اختيارها، ومن هنا نشأت في بعض النفوس ثورة على العقل نفسه وعلى العلم وصرامة أحكامه، وكان لهذه الثورة أكثر من صورة واحدة ظهرت بها، فهنالك من لاذوا بالتصوف دون العلم، وبالوجدان دون العقل، وهنالك الشكاك الذين أخذوا يتشككون في قدرة العقل على الوصول إلى الحق، وهنالك الوجوديون الذين أصروا على أن يكون الفرد - كل فرد - مسئولا عن اختياره، ولا تتحقق هذه المسئولية بغير حرية اختيار.
نعم هنالك من لاذوا بالتصوف بمعناه الفلسفي ، وأعني التنكر للعقل ومنطقه والركون إلى ما يسمى اصطلاحا ب «الحدس»، وهو المعاينة بالروح معاينة مباشرة، ولعل أميز ما يميز الحدسيين المعاصرين عن أسلافهم القدماء - فكثير جدا هم الفلاسفة الحدسيون في التاريخ، منذ أفلاطون فنازلا على مدارج الزمن - هو أن القدماء كانوا يعدون حدسهم ضربا من الفاعلية العقلية على حين ترى المحدثين إذ يلجئون إلى إدراكهم الحدسي، يعدون ذلك ثورة على العقل.
فهو عندهم من قبيل الفاعلية اللاعقلية القائمة على أساس الانفعال والتعاطف الوجداني والرغبة، احتجاجا منهم على ما يرونه طغيانا للعقل وللعلم على حياة البشر.
ومن قبيل الثورة على العقل أيضا مذهب الوجوديين فيما يختص بطبيعة الإنسان وحقيقته، فلئن كان في مستطاع العلم والعقل أن يحكم على «الأشياء» بأحكام عامة تضم أفراد النوع الواحد في تعريف واحد، فما كذلك الإنسان لأن كل فرد يختلف بفرديته عن كل فرد سواه، بحيث يصنع كل فرد حقيقته من مجموعة ما يصدره لنفسه من قرارات يلتزم تنفيذها بإزاء المواقف التي تعرض له، وليس بنا حاجة هنا إلى ذكر الآثار البعيدة المدى في ثقافة عصرنا، التي أحدثتها الفلسفة الوجودية في نظرتها إلى الإنسان وتحليل مواقفه ومشكلاته، وحسبك نظرة إلى الحركات الأدبية والمدارس الفنية في العالم كله، لترى إلى أي حد أصبحت لفتة الأديب ولفتة الفنان إلى دخيلة نفسه ليتصيد منها ما يخرجه للناس فردا مشخصا فريدا، فإن كان الناس على اختلافهم يتفقون عادة على «الموضوعات» الخارجية، فهذه شجرة وتلك بقرة؛ أعني أنه إذا كان الناس يتفقون في حياة الصحو فهم إنما يختلفون أشد الاختلاف حين ينطوون إلى دخائل نفوسهم كما يحدث لهم في أحلامهم.
ومن هنا اتجه رجال الأدب والفن في حالات كثيرة إلى ما يشبه الأحلام من حياة الإنسان.
अज्ञात पृष्ठ