قلنا: إنه مهما يكن المذهب الذي يريده الفيلسوف لنفسه، فهو لا بد أن يجعل الواقع نقطة ابتداء لمسيره، لكنه - في هذه الحالة - الواقع الفج الخام الغفل الغشيم، الواقع الذي يحياه الناس حين يكونون في المرحلة التي لا ينفصل فيها فكر عن عمل ولا عمل عن فكر، إذ يكون «الفكر» في هذه المرحلة مجسدا في مواقف، لم يبلغ بعد أن يتجرد وحده في نظرية صورية متحررة من تفصيلات مكان الوقوع وزمانه ... نعم لا بد للفيلسوف - مهما يكن مذهبه - أن يبدأ من هذه القاعدة الدنيا، ليستخلص مما يرى ما قد اندس فيه من نظريات، وأفكار ومبادئ، ليضعها - وهي في صورتها المجردة - موضع النقد والتحوير والتبديل، حتى إذا ما صقل لنفسه «فكرة» وسواها، عاد بها - أو قدومها للناس ليعودوا بها - إلى عالم الواقع مرة أخرى، فأعملها في ذلك العالم وأجراها في أحشائه ليتغير وجهه على النحو المرتجى.
أبدا لا يريد الفيلسوف أن يقف من العالم عند حد التأمل، بحيث يظل يدير الأمر في دخيلة فؤاده، ثم لا شيء بعد ذاك، إذ لو فعل ذلك لما زاد على أن يشد العالم من خارجه إلى داخله، وأن يكتفي بأن يكون هو على وعي وفي صحو ويقظة، فهو في هذه الحالة يتأثر ولا يؤثر، ويأخذ ولا يعطي، نعم، إن ذلك قد يجعل منه هو إنسانا أكثر تهذيبا مما كان وأنفذ بصيرة، لكن وجوده بين الناس يساوي عدم وجوده بالنسبة إليهم؛ لأن دنياهم لن تتغير بسبب ما قد يكون في رأسه من فكرة أو مبدأ، على أن مثل هذا الفيلسوف الذي يحرص على أن تدور مكنة الفكر داخل رأسه دون أن يخرج للناس طحنها ليقبلوه أو يرفضوه، لا أعرف له وجودا إلا فيمن أخذ دنياه مأخذ الهزل، وهؤلاء هم الصغار.
وسؤالنا الآن هو هذا: كيف يختلف وقع الفكرة الفلسفية باختلاف المذاهب، وقد لخصنا هذه المذاهب في ثلاثة: مذهب يجعل الأولوية للواقع المادي وأما الفكر فظل له وتابع، ومذهب يجعل الأولوية للفكر الذي ينبع من طبيعة العقل ذاتها، وأما عالم المادة فظل له وتابع، ومذهب ذلك يجعل الواقع والفكر في حوار، فلا فكر إلا ما له صلة بالواقع، ولا واقع إلا ما له صلة بالفكر، ولا واقع ولا فكر معا إلا بما له صلة بالإنسان وحياته.
لو كان الفيلسوف واقعيا، بالمعنى الذي يجعله ينظر إلى الطبيعة ومجراها على أنها أمر مفروغ منه ولا قبل لنا بتغييره، كان في رأيه أن كل ما في وسعنا هو أن نوائم بين أنفسنا وبين الطبيعة وقوانينها، فكل حركة في جسد الإنسان نفسه هي جزء من تيار الحوادث المحتوم، لا يغير منها أن يسر لها أو يحزن، فليسر ما شاء أو ليحزن، فذلك لن يغير من الأمر شيئا، وإذن فالتفكير الإنساني في هذه الحالة مسألة ذاتية بحتة لا تخص إلا صاحبها؛ ولذلك يغلب على الفيلسوف الواقعي أن يكون - في فلسفته - بمعزل عن دنيا العمل والنشاط، ولماذا يتدخل - بفلسفته - في مجرى الحوادث وهو يعلم أن تيارها محتوم بقوانين الواقع، والخير كل الخير هو في أن نخلي بين العلماء وبين هذا الواقع المحتوم المطرد، ليبحثوا لنا عن قوانينه فنفيد منها ما استطعنا، وقصارى الإنسان أن يضبط نفسه ليمسك بزمامها، لأنه لن يستطيع أن يمسك بزمام القدر ومصيره.
وأما صاحبنا الفيلسوف المثالي الذي يجعل الأولوية للفكرة النابعة من جوف الدماغ لتفرض نفسها على الخارج، فأمره مختلف، لقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن «الفكرة» - أي فكرة - هي بطبيعتها مبرأة من أوجه التفاوت والنقص التي نراها عادة في الأشياء كما تقع فعلا، «ففكرة» الحصان هي دائما أكمل من أي حصان نراه في دنيا الواقع، و«فكرة» الإنسان هي دائما كذلك أكمل من أي إنسان نراه في دنيا الواقع، و«فكرة» الخط المستقيم أكمل من أي خط مستقيم نرسمه في دنيا الواقع، و«فكرة» الحكومة، و«فكرة» الأسرة و«فكرة» المدينة كلها أكمل من قسائمها التي تقع فعلا، ولا عجب في ذلك، إذ إننا في حالة «الفكرة» نحن الذين نطهو الأكلة على مزاجنا، وأما في حالة الأمر الواقع فعلينا أن نتقبل أشياء تفرض نفسها علينا دون أن تكون هي المرجوة المشتهاة - ففيلسوفنا المثالي يسوي لنفسه عالما فكريا، يراه دائما أكمل من أي واقع، فيعيش فيه، كأنما هو ينتظر حتى يعلو الواقع إلى حيث يعيش، وحتى إن هم ونزل عن عالمه الفكري ليصلح عالم الواقع ويغيره، فسيكون قياسه دائما إلى أفكاره المثلى ومعاييره الكاملة، فيصعب عليه أن يملأ الفجوة بين الواقع في نقصه من جهة ومعاييره في كمالها من جهة أخرى، وعندئذ إما أن ييأس ويلوذ مرة أخرى بعالمه الفكري، وإما أن يتعب الناس بغير طائل قريب.
لكن الزميل الثالث الذي يجعل الأمر حوارا بين الفكر والواقع رجل عملي (ونحن نفرق بين «العملي» و«الواقعي») لا يعجبه تطرف الواقعية من جهة، ولا تطرف المثالية من جهة أخرى، فلماذا أجعل للواقع المحتوم كل هذا السلطان الذي يشل قدرة الإنسان على تغييره؟ ولماذا أجعل للأفكار المثلى كل هذه الرفعة التي تعلو بها على الواقع الناقص فلا تفيده شيئا برفعتها وكمالها؟ فهذه هي بيئة معينة أريد أن أحيا فيها، لكنها قد توافق أهدافي في جانب، وتعارض أهدافي في جانب آخر، وأريد أن أغير الجانب المعارض بحيث يخدم تلك الأهداف، وإذن فلا بد من تفاعل معها أقبل به ما أقبله وأرفض ما أرفضه لأغير ما أغيره! إنه لا جدوى في أن أركن إلى شيء سواي أنا وبقية الزملاء في المجتمع ليغير لي ما أريد تغييره من البيئة التي نسكنها، ثم لا جدوى في أن أخط للتغيير خطة فكرية مثلى معصومة من الخطأ ومن النقص، حتى إذا ما وجدت تطبيقها محالا، انطويت على نفسي لأعيش في أحلامها؛ ولذلك لا جدوى في أن أفرض أن للأشياء طبائعها التي لا تتغير، بل الجدوى هي في تناول المشكلات واحدة واحدة، لأدرس تفصيلاتها، ثم أقترح لحلها فكرة تناسبها، وقد أعود إليها من جديد مرة بعد مرة، إذا كان الحل لا يأتي إلا على درجات.
إن المعركة بيننا وبين الواقع دائرة الرحى، الأرض القاحلة يراد لها أن تزرع، والمادة الخامة يراد لها أن تشكل وتصاغ، والطرق يراد لها أن تمهد، والترع أن تشق والمرض أن يعالج والأمية أن تزال وغشاوة الجهل والخرافة أن تنقشع، ولن يغني إزاء هذه المعركة الدائرة الرحى أن ينعزل الفيلسوف المثالي بفكره الذي لا يتعرض للخطأ، ولا أن ينظر الفيلسوف الواقعي إلى الواقع على أن هذه هي طبائع الأشياء فيه فلا يتغير منه شيء إلا وفق قوانين الواقع المادي نفسه، فالمثاليون سادة مترفعون، والواقعيون سلبيون متفرجون، مع أننا نريد الرجل الذي ينزل معنا في المعمعة ومعه الفكرة التي تصلح سلاحا في القتال! قد يكون السيف أصلح هنا والمدفع أصلح هناك، الطائرة النفاثة مطلوبة هنا والدبابة مطلوبة هناك ... أعني أن لكل مشكلة ظروفها وطريقة علاجها المؤقتة، حتى إذا ما اتخذت وضعا أكثر ملاءمة عدنا إليها بطريقة علاج أخرى، وهلم جرا، ليست الحياة كمالا ولكنها سير نحو الكمال، عند المثاليين مراهقة طال أمدها، واحترام الواقع عند الواقعيين قناعة وعجز.
الفلسفة العملية هي فلسفة التجربة والخطأ، هي فلسفة النقد والإصلاح، هي فلسفة النظرة النسبية إلى المواقف والمشكلات، فلكل موقف ما يناسبه ولكل مشكلة ما يعالجها، وعندئذ يكون هذا وذاك هو «الحق» في هذه اللحظة، وقد لا يعود هو «الحق» غدا بالنسبة للموقف نفسه وللمشكلة نفسها، فإذا كانت المشكلة - مثلا - هي مشكلة التعليم، واجهتها بما يناسبها الآن، فأجعل التعليم الإلزامي إلى السن الفلانية، ودخول الجامعة بالنسبة الفلانية، ثم قد يتغير الموقف غدا فأكون أكثر تقدما وأغزر ثراء، فأتناول المشكلة نفسها مرة أخرى بحل جديد.
إن «الحق» حاصل ضرب بين طرفين، هما نحن والموقف الذي نريد أن نقبله أو أن نغيره، وأي فكرة نقحمها على هذين الطرفين تفسد علينا الفاعلية والعمل، سواء أتينا بالفكرة من تراث موروث عن الأسلاف أم جئنا بها من أمم تختلف ظروفها عن ظروفنا، وهذا هو معنى قولنا إن فلسفتنا نابعة - أو يجب أن تنبع - من واقعنا، والفكرة المقحمة علينا من زمان غير زماننا، أو من مكان غير مكاننا، حتى وإن كانت أكمل من فكرتنا الطارئة علينا، فهي بمثابة الفكرة عند الفلاسفة المثاليين، يأخذونها لكمال بنائها، لا لصلاحيتها لمعالجة موقف بذاته يعترض طريقنا.
لكننا أمة ورثت فيما ورثته مجموعة من القيم العليا التي نحس في أعماقنا أنها قيم ثابتة ودائمة ومطلقة من قيود المكان والزمان، فنقول عنها إنها قيم تصلح للإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن مكانه وزمانه ومواقفه ومشكلاته، فهل هنالك تناقض بين قبولنا لتلك المعايير الثابتة، المطلقة من جهة، وقولنا من جهة أخرى إن الحق يتغير بتغير الموقف الذي يصادفنا والمشكلة التي نعالجها، فما قد يكون معيارا صالحا اليوم قد لا يصبح معيارا صالحا غدا؟
अज्ञात पृष्ठ