ونستطيع أن نمضي في ضرب الأمثلة لما قد حدث في حياتنا الفكرية خلال هذا القرن من «صراعات» حقيقية بين أفكار تتصل بهذا الجانب أو ذلك من جوانب حياتنا، وهي صراعات يتحتم فيها الأخذ بأحد الطرفين المتصارعين دون الآخر، مع استحالة الجمع بينهما في مشكلة واحدة بعينها، وقد كتبت الغلبة في معظم الحالات للفكرة الجديدة، فتغيرت الحياة فيما يتصل بالفكرة الغالبة، لكن تلك الغلبة أحيانا لم تكن من نصيب الفكرة الجديدة، فظلت الفكرة القديمة غالبة سائدة، وبالتالي لم تتغير الحياة في جانبها المتصل بتلك الفكرة، وهنا ينبغي أن نذكر حقيقة هامة، وهي أن «التغير» في ذاته ليس هو المقصود، إنما المقصود هو التغير الذي يحدث تطورا وتقدما ونموا، فإذا كانت الفكرة الغالبة في الصراع، محققة للتطور، كانت خيرا من زميلتها، بغض النظر عن أيهما جديد وأيهما قديم.
أما الحالة الثانية من الحالات الأربع التي أسلفنا ذكرها، فهي حين يتناول كل من المتجادلين جانبا من المشكلة المعروضة غير الجانب الذي يتناوله الآخر، وعندئذ لا يكون بين الطرفين «صراع» بقدر ما يكون بينهما تعاون وتكامل، حتى ليجوز لنا ضم الصواب الجزئي الذي أدركه أحدهما إلى الصواب الجزئي الذي أدركه زميله، ليكون لنا بذلك الضم الصواب كله، أو شطر من الصواب - على أية حال - أكبر من كل من الصوابين على حدة، وقد ضربنا لذلك مثلا مشكلة العلوم وترجمتها، فهل ننقلها إلى العربية أو نتركها على أصلها في أيدي طلابنا ودارسينا، ونسوق الآن مثلا آخر أو مثلين.
فالمشكلة ما زالت قائمة، والنزاع ما زال محتدما، حول الفصحى والعامية بأيهما نكتب في مجال القصة والمسرحية والشعر بصفة خاصة، وسؤالنا الآن هو هذا: أحقا نحن بإزاء طرفين نقيضين لا يلتقيان؟ هل المسألة هي إما أن نكتب بالفصحى ولا عامية وإما أن نكتب بالعامية ولا فصحى؟ ألا يجوز أن يكون هنالك موقف يجمع بين الفصحى في سياق والعامية في سياق؟ ماذا لو كتب متن القصة - مثلا - بالفصحى وحوار العامة بالعامية؟ ماذا لو أخذنا من الفصحى بطرف ومن العامية بطرف كالاقتراح الذي قدمه الأستاذ توفيق الحكيم؟ إن ما يقوله أنصار الفصحى لا ينقض بالضرورة ما يقوله أنصار العامية، كلا ولا ما يقوله أنصار العامية بالذي ينقض ما يقوله أنصار الفصحى، بدليل أننا قد رأينا بالفعل آثارا أدبية التقى فيها الطرفان على وجه من الوجوه.
وقريب من هذا مشكلة الشعر القائمة المحتدمة بين قديمه وحديثه، ويحلو للقائمين بها أن يسموها «صراعا» كأنما لو نظم الشعر شاعر على النسق التقليدي تحتم ألا يقرضه شاعر آخر على أي نحو شاء! نعم كأنما في العربية كلها شاعر واحد وهو إما أن يقول الشعر على هذه الصورة أو على نقيضها! هب أن سائلا سألك: أتريد للناس أن يأكلوا اللحم أو الأرز؟ أفلا يكون الجواب: أريد لهم أن يأكلوا اللحم والأرز ومائة صنف آخر غير اللحم والأرز إذا أسعفتهم جيوبهم وبطونهم، ولقد شهدنا في هذه «المعركة» عجبا، إذ شهدنا شاعرا ينظم الشعر على صورته التقليدية من وزن وقافية، ولأن شخصه محبب لدى أنصار الشعر الجديد، رأوا في شعره شعرا جديدا - إنني أؤكد لقارئي أنني لا أكتب هذا مؤيدا لجديد أو قديم، بل أكتبه لأبين ألا «صراع» في مثل هذه المشكلات؛ لأن الطرفين المتنازعين لا يزيح أحدهما الآخر، بل يأتي ليقف إلى جواره، كأنما أنت صاحب منزل ذي ثلاث غرف فأضفت إليها غرفة رابعة.
ولقد شهدنا كذلك معركة عنيفة في عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته بين أنصار الجديد وأنصار القديم - وكان الجديد والقديم عندئذ معناهما على التوالي: الثقافة الأوروبية والتراث العربي - وكان بيننا من انتصر للأولى انتصارا تاما، ومن انتصر للتراث العربي انتصارا تاما، ولو كان المتقاتلون ذوي بصر وسمع، لرأوا بين ظهرانيهم - حتى في ساعة احتدام المعركة - أدباء اجتمعت في قلوبهم وفي عقولهم أطراف الثقافتين معا، مما يدل دلالة قاطعة على أن المسألة ليست إما هذا أو ذاك ولا اجتماع بين الجانبين، بل هي على صورتها الأصح: هذا وذاك معا، فهل تعد طه حسين مثلا مشربا بالثقافة العربية وحدها أو تعده مشربا بالثقافة الأوروبية وحدها؟ هل تعد العقاد من الفريق الأول أو من الفريق الثاني؟ وكذلك قل في هيكل والمازني وغيرهما، وها هي ذي الأعوام قد كرت بنا إلى يومنا الراهن، فإذا الثقافتان اليوم يتلاقيان في وحدة - إلا تكن قد تمت فهي في طريقها إلى أن تتم - بحيث يتكون منهما ما يصبح ثقافة جديدة مطبوعة بطابعنا الحديث.
وكذلك ليس من ضروب «الصراع» الفكري أن تختلف العبارتان في اللفظ لكنهما تترادفان في المعنى، وقد أسلفت لذلك مثلا هذا الخلاف الظاهري الذي تجري به أقلام طائفة من كتابنا اليوم عن «الاشتراكية العربية» و«التطبيق العربي للاشتراكية»، وأريد الآن أن أزيد من الأمثلة لعلها توضح ما نريد، فمن المشكلات القائمة بيننا اليوم مشكلة «الالتزام» في الأدب والفن، بل وفي الفكر بصفة عامة، وإن الحديث في المشكلة ليوحي بأن هنالك فريقين: أحدهما يقول بوجوب الالتزام ويقول الآخر بعدم وجوبه، على أن ثمة مسلمة متفقا عليها، وهي أن الالتزام لا يقصد به الإلزام، بمعنى أن الحركة تنبع من داخل المفكر أو الأديب، ولا تفرض عليه من عوامل خارجية، وإذن فقد انحصر الخلاف «المزعوم» في أن فريقا يقول: إنه لا بد أن يكون عند الأديب أو المفكر هدف يلتزم بلوغه بالوسائل التي يراها، على حين أن الفريق الآخر يقول - في زعم الزاعمين - إنه لا هدف هناك عند الأديب أو المفكر، ولذلك فلا وسائل معينة محددة، وتسأل الزاعمين: ترى هل يمسك المفكر غير الملتزم - أو الأديب - قلمه، ويغمض عينيه، ويخبط بالقلم على الورق كيف اختلجت الأصابع، كأنه قط وجد أمامه آلة كاتبة فراح يخبط على مفاتيحها بمخالبه؟ فيكون جواب الزاعمين عن سؤالك هذا - فيما أظن - هو شيء كهذا: لا بل إن غير الملتزم هو من يفكر للفكر نفسه، ومن يصنع أدبا للأدب نفسه، وفنا للفن نفسه ... أي أن الأهداف «داخلية» لا «خارجية» - إن جاز هذا الوصف - ونحن نقول لهؤلاء: إن هذا هو التزام، ولا فرق - من حيث «الالتزام» ذاته - بين أن يكون الهدف هو داخل الأثر الفكري أو الأدبي، أو خارجه، كلاهما التزام لصاحب الأثر بما أراد أن يصنعه، فإذا كان هنالك بعد ذلك اختلاف بين قائل بأن الهدف لا بد أن يكون خارج الأثر المصنوع، وقائل آخر بأنه إنما يكون داخلا في كيان الأثر ذاته، فليس الاختلاف عندئذ على «الالتزام» وجودا وعدما، بل الاختلاف على موضع الهدف الذي يراد التزامه، وإذن فلا فرق - من حيث الالتزام - بين عبارتين: إحداهما تقول إن الأدب هو للأدب، وأخرى تقول إن الأدب للمجتمع، إذ العبارتان كلتاهما تقرران الالتزام على حد سواء وبمعنى واحد، وإن اختلف فيهما الشيء الذي نلتزم به، وإنه لمما يزيد هذا الأمر وضوحا، أن القائلين بأن الأدب الملتزم معناه التزام بمشكلات المجتمع، لا يفوتهم أن يؤكدوا بأن هذا الالتزام بمشكلات المجتمع لا يعفي الأديب من أن يلتزم «أيضا» بما يوجبه الفن الأدبي من قواعد وأصول، وحتى لو أخذنا بهذا التفسير، فإن الخلاف بين الفريقين لا يكون خلافا على وجوب الالتزام أو عدم وجوبه، بل يكون على «عدد» الالتزامات، ففريق يقول إنهما التزامان: التزام بقواعد الفن الأدبي أولا، والتزام بأن يكون المضمون هو مشكلات المجتمع ثانيا، على حين أن الفريق الآخر يطالب بالتزام واحد، هو التزام بقواعد الفن الأدبي، ولا شأن لنا بعد ذلك بالمضمون ونوعه، فإذا كانت هذه هي حقيقة الموقف، أفلا يكون الفريقان معا على اتفاق في فكرة الالتزام من حيث هو كذلك؟ وإلا فأين هو الأديب الواحد أو الفنان الواحد أو المفكر الواحد، على طول التاريخ الثقافي كله، الذي لم «يلتزم» في عمله شيئا ما؟ فإذا قال قائل هنا: لا، بل نريده أن يلتزم كذا لا كيت، كان ذلك «إلزاما» لا «التزاما» ... وقد اعترفنا جميعا بأنه لا إلزام.
وأسوق مثلا آخر وأخيرا، لاختلاف الرأي الموهوم، حين تختلف العبارات في لفظها، حتى إذا ما أمعنت النظر في مدلولاتها، ألفيتها تستهدف هدفا واحدا، والمثل الذي أسوقه هو اختلاف القائلين بالفردية والاجتماعية، ففي ظني أنه لو ترك التقابل بين الطرفين هكذا مطلقا من القيود، لأفرغناه من معناه، فالمعنى الحقيقي المقصود هو ألا ينشط الفرد في ميادين العمل والفكر إلا بما عساه أن يخدم المجموع، لكن هذا نفسه لا ينفي أن يكون الفرد في نشاطه فردا، وإنما هو مطالب بنوع معين من النشاط الذي يحقق به فرديته والذي يفيد المجتمع في الوقت نفسه، إذ قد ينشط الفرد بما يهدم المجتمع، وإذن فليس الشرط هو ألا ينشط الفرد من حيث هو فرد، بل الشرط هو أن يوجه نشاطه الفردي نحو خدمة الناس، افرض أن الفرد الذي نخاطبه بهذا الكلام يحترف مهنة الحكم في لعبة الكرة، فكيف يمكن أن يمارس حرفته إلا من حيث هو فرد؟ لهذا فنحن لا نطالبه بأن يحد من فرديته، بل نطالبه بأن يوجه نشاطه الفردي في أدائه لحرفته نحو هدف معين يخدم اللاعبين جميعا، إن أشد أنصار الفردية تعصبا لرأيه، لا يطرح الناس من حسابه، بدليل أنه يتكلم ليعبر عن رأيه ذاك، ويرسل كلامه إلى المطبعة ليطبع وينشر، وهو حين يتكلم وحين يعمل على نشر كلامه، إنما يتوجه به نحو الناس، وإذن فالقائلون بالفردية والقائلون بالاجتماعية، إنما يقولان شيئا واحدا، إذا كان المراد هو أن يكون النشاط الفكري أو العملي ذا صلة بالمجتمع كله أو بعضه، ولا يكون بينهما فرق إلا إذا قصرنا معنى الفردية على النشاط الذي يهدم المجتمع، ويعارض مصالحه، لكن من أين يتحتم هذا المعنى؟ وعلى كل حال، فلو كان دفع المجتمع أو تعويقه هو موضع الحديث، كان لمثل هذا الاختلاف معنى، أما أن يكون المحوران هما الفردية والاجتماعية، من حيث هما، فلا اختلاف هناك في حقيقة الأمر؛ لأن الفردية لا تكون إلا في مجتمع.
وإن أغمض الحالات جميعا عن الرؤية، هي الحالة الرابعة - من الحالات التي أسلفنا ذكرها - حين يكون لكل متحدث مشكلته التي يتصدى لها، وبرغم ذلك يظن المتحدثان أنهما يتصديان لمشكلة واحدة بعينها، وأن أحدهما، إذا أصاب الرأي، تحتم أن يوصم زميله بالخطأ.
وأعيد القول مرة أخرى، بأن الخلاف لا يكون بين رأيين، إلا إذا كان الرأيان مما يتعلقان بسؤال واحد، أي أنهما معا يندرجان في مقولة واحدة، فإذا سئلنا - أنت وأنا - عن جدران هذه الغرفة، فقلت أنا إنها بيضاء، وقلت أنت إن ارتفاعها أربعة أمتار، فليس هذا الذي بيننا هو خلاف في الرأي؛ لأنك بمثابة من يجيب عن سؤال غير السؤال الذي أجيب أنا عنه، أنت تتحدث عن «الكيف» وأنا أتحدث عن «الكم» وهما مقولتان مختلفتان.
وحسبي هنا مثل واحد أسوقه لاختلاف الرأي المزعوم، حين لا يكون في حقيقة الأمر اختلاف؛ لأن كل رأي من الرأيين متصل بمشكلة غير المشكلة التي يتصل بها الرأي الآخر، وليكن هذا المثل هو اختلاف النقاد على مبدأ النقد الأدبي ماذا يكون؟ فها هنا تجد إجابات كثيرة، ناقد جعل مبدأ البحث عما تحمله القطعة الأدبية من رسالة فكرية، وناقد آخر يجعل مبدأ البحث عن القالب الذي صبت فيه تلك الرسالة إذا كان ثمة رسالة، وناقد ثالث، ورابع وخامس إلى آخر الصف الطويل، ويزعمون أنهم مختلفون في مشكلة واحدة بعينها، وليس الأمر كذلك؛ لأن كلا منهم يهتم بشيء غير الشيء الذي يهتم به الآخر، افرض أننا أربعة أصدقاء دخلنا معا مكتبة ليبحث كل منا عن كتاب غير الكتاب الذي يبحث عنه الآخر: واحد يريد كتاب الوجود والعدم لسارتر، وآخر يريد كتاب مبادئ الهندسة لإقليدس، وثالث يسأل عن الأيام لطه حسين ورابع يطلب ديوان العقاد، فهل يكون بيننا خلاف على رأي؟ وهكذا قل في أربعة نقاد يتناولون قصة أو مسرحية، بمبدأ نقدي لكل منهم غير المبدأ الذي يأخذ به زميله، فالقصة المنقودة هي الدكان الذي سيدخلونه جميعا، لكن لكل منهم فيها مأربا، إن وجده كان خيرا وإلا فهو يخرج منها بغير زاد ... اختلفت المطالب، أي اختلفت الأسئلة فاختلفت الإجابات بالضرورة، فلا صراع هناك كما قد يظن المغرمون بالصراع الفكري، حيث يكون، وحيث لا يكون بغير تمييز.
अज्ञात पृष्ठ