إرادة التغيير
إنه لمما توصف به الفاعلية الفلسفية أحيانا، هو أنها محاولات لتوضيح المفاهيم التي تقع عند الناس بين الجهل التام والعلم التام ، بمعنى أنها مفاهيم يتداولها الناس وهم على بعض العلم بها، فلا هم يجهلونها كل الجهل ولا هم يعلمونها كل العلم، فتتناولها الفلسفة بالتحليل والتوضيح لعلها تبلغ من معانيها مبلغ التحديد الدقيق الحاسم، فهذه المفاهيم التي تقع عند الناس وسطا بين الغموض والوضوح، هي أشبه شيء بمدينة تراها على مبعدة فترى بروزا ممتدا في الأفق، تتبين معالمه الرئيسية من بناء مرتفع هناك ودخان متصاعد هنا، فتكون مما تراه على يقين أنك تقترب من مدينة، أما تفصيلاتها فلست منها على هذه الدرجة من اليقين، لكنك كلما دنوت منها ازددت إلماما بتلك التفصيلات، فما قد كان يبدو لك من بعيد بقعة كبيرة بيضاء، قد أخذ الآن يتبين في شيء من الوضوح أنه عمارة سكنية ارتفاعها عشرون طابقا، وتلك التي بدت لك من بعيد لمعة ضوئية ساطعة، قد ظهر لك الآن أنها سطح من زجاج يغطي مصنعا ضخما.
وهكذا قل في كثير جدا من المفاهيم التي نتداولها في مجرى حياتنا الفكرية، بل وفي مجرى حياتنا العملية، والتي نشعر أن الحياة - فكرية أو عملية - متعذرة بدونها، ومع ذلك فعلمنا بها لا يكاد يتعدى علمنا بأن في الأفق البعيد مدينة كبيرة، وها هنا يكون عمل الفلسفة أن تدنو بنا من تلك المفاهيم لنراها في تفصيلاتها ودقائقها، وكثيرا ما تأخذنا الدهشة أن نرى من تلك التفصيلات والدقائق ما لم نتوقعه ولم يخطر لنا ببال، وعندئذ قد يحدث لمن أخذته الدهشة أن يثور في وجه من أخذ بيده وأطلعه على دقائق ما كان يتصوره في غموض وإبهام، متهما إياه بأنه يعقد البسيط، ويصعب السهل، ويغمض الواضح، والأمر في هذا شبيه بنا حين نستخدم الورقة والقلم والمنضدة والمقعد في بساطة تخيل إلينا أن هذه أشياء أولية لا تحتاج إلى تحليل، حتى إذا ما جاء عالم الفيزياء ينبئنا أنها في الحقيقة أشياء مركبة معقدة تنحل آخر الأمر إلى عناصر قوامها ذرات مؤلفة من كهارب موجبة وكهارب سالبة وكهارب محايدة، إلى آخر هذه القصة التي ترويها الطبيعة النووية؛ أخذتنا الدهشة، لكن العجب هنا هو أن الدهشة لا تنتهي بأصحابها إلى اتهام علماء الطبيعة بأنهم يعقدون البسيط ويصعبون السهل ويغمضون الواضح، بل ترى هؤلاء ينصتون في إعجاب، يريدون أن يعلموا ما لم يكونوا يعلمونه، على خلاف موقفهم في الحالة الأولى، حين جاءهم الفيلسوف بتحليل يفكك لهم أوصال المفاهيم التي يتداولونها، فثاروا في وجهه كأنهم كانوا يجدون النعمة في الفهم المبهم، ويخشون أن يفسد تحليل الفلاسفة عليهم ما كانوا به ينعمون.
ولعل السر في اختلاف الموقفين: موقف الناس بإزاء التحليل الطبيعي الذي يفكك الأشياء المادية إلى عناصرها الأولية، وموقفهم بإزاء التحليل الفلسفي الذي يفكك الأفكار العقلية إلى مقوماتها البسيطة: هو أن النوع الأول من التحليل لا يمس نفوسهم، وإنما ينصب على أشياء لا تمت لأنفسهم بصلة إلا صلة الأداة الجامدة بمن يستخدمها، وأما النوع الثاني من التحليل فهو في الأعم الأغلب ينصب على جوانب من صميم النفس الإنسانية وقيمها: العقل والروح والذكاء والتفكير والإرادة والعاطفة والانفعال والخير والشر والجمال والقبح والحق والباطل، إلى آخر هذه القائمة الطويلة من التصورات التي يستحيل عليك أن تجد إنسانا واحدا يجهلها كل الجهل، بدليل أنه ما من إنسان تكاملت له قدراته إلا وتصبح هذه التصورات جزءا من اللغة المتداولة المشتركة التي ترد في حديثه دون أن يقف عندها متسائلا: ماذا تعني؟ إلا أن يكون فيلسوفا أو سائرا في طريق الفكر الفلسفي.
و«إرادة التغيير» كلمتان صيغتا على صورة المضاف والمضاف إليه، تماما كما نقول «قراءة الكتب» و«كتابة الخطابات» و«رؤية الشمس»، وهما كلمتان قد أصبحتا مما نتداوله في الحديث، لا غناء لنا عنهما؛ لأنهما معا تكونان أحد المبادئ التي نستهديها في بناء حياتنا الجديدة، وهما - سواء أخذناهما مفردتين أو موصولتين في عبارة واحدة - من ذلك الضرب من المعاني التي أشرنا إليها؛ أعني ذلك الضرب من المفاهيم التي يكون الناس منها على درجة وسطى بين الجهل والعلم، ومن ذا لا يستخدم كلمة «إرادة» وكلمة «تغيير» في حديثه الجاري، وهو على بعض العلم بما تعني هذه الكلمة أو تلك؟ ليس من الناس من يجهلها كل الجهل، ولكننا نزعم أيضا أن قليلا جدا من الناس هم الذين يعلمونهما كل العلم.
فماذا نعني بالإرادة؟ إنني لا أنوي أن أسوح بالقارئ في متاهات المذاهب المختلفة، وأوثر أن أعرض الأمر من وجهة النظر التي أراني أميل إلى قبولها، فأنا أحد الذين يؤمنون ببطلان نظرية «الملكات» التي كان أصحابها يظنون أن داخل الإنسان «قوى» لكل قوة منها كيان مستقل قائم بذاته، فهذا «عقل» وتلك «نفس»، وهذا «ذكاء» وتلك «إرادة» كأنما هي جمهرة من الأشباح ازدحمت في جوف الإنسان، لكل شبح منها عمله الذي يؤديه، وحتى إذا مرت به ساعة لا يؤدي خلالها ذلك العمل، فهو ما يزال هناك مستريحا أو معطلا، ينتظر اللحظة التي ينشط فيها لأداء عمله. كلا، لست من هؤلاء الذين يتصورون قوى الإنسان أشباحا قائمة بذواتها داخل الإنسان، تؤدي عملها حينا ولا تؤديه حينا آخر، إذ إنني ممن يأخذون في فهم الإنسان بالنظرة «السلوكية» التي تترجم أمثال هذه التصورات (عقل، نفس، ذكاء، إرادة ... إلخ) إلى نوع السلوك الذي يسلكه البدن في مواقف الحياة المنظورة المشهودة، وبهذا يكون «العقل» نمطا معينا من السلوك يسلكه الإنسان في مواقف بذاتها، وتكون «الإرادة» نمطا معينا آخر من السلوك، وهلم جرا، فلو سألتني: ما العقل؟ أخذتك من يدك إلى إنسان يحاول أن يلتمس الطريق إلى هدف - كائنا ما كان الهدف، وكائنا ما كان الطريق - وقلت لك: هذا الذي تراه من محاولة للوصول إلى هدف، هو مثل من الأمثلة الكثيرة التي جاءت كلمة «عقل» لتضمها جميعا في حزمة واحدة. نعم إن أهداف الناس كثيرة ومنوعة بتنوع الأفراد والمواقف والظروف، وبالتالي فإن المحاولات لتحقيقها تختلف باختلاف تلك الأهداف، فالذي هدفه أن يشكل قطعة الحديد على صورة المفتاح، لا تجيء محاولته شبيهة بمحاولة الذي هدفه أن ينسج من القطن قماشا، أو شبيهة بمحاولة الذي هدفه أن يقسم تركة بين الوارثين ليعطي كلا ما يستحقه منها، لكن هذه كلها أمثلة تجسد ما نعنيه بالعقل؛ لأنها أمثلة لمحاولات يقوم بها أصحابها بغية الوصول إلى هدف مقصود، وبهذا نفهم «العقل» من زاوية السلوك المرئي المشهود وبهذا أيضا نفهم الصلة الوثيقة بين «الفكر» و«العمل»، فليس فكرا ما ليس يتجسد في عمل، وليس عملا موفقا مسددا نحو غاية ما ليس يسير على فكرة مرسومة.
وهكذا قل في «الإرادة»، فإذا سألتني ما «الإرادة»؟ أخذتك من يدك إلى إنسان استهدف هدفا، فلما سار إلى تحقيقه صادفته في الطريق معوقات، فراح يزيلها ليستأنف السير، إنه لا انفصال بين «الإرادة» و«العمل» حتى ليصبح من اللغو أن تقول عن إنسان إن له «إرادة» لكنها لا تجد العمل الذي تؤديه، وإلا كنت كمن يقول إنه يأكل ولا طعام، أو يشرب ولا ماء! الإرادة هي نفسها العمل الذي يحقق الهدف ويزيل ما قد يحول دون تحقيقه، شريطة أن يكون الهدف هو هدفك أنت، وإلا كنت آلة مسخرة في يد صاحب الهدف، إنك في العمل الإرادي أنت الآمر وأنت المأمور، بل إنه لتشبيه مضلل أن نجعل منك آمرا ومأمورا، كما لو كنت جانبين أحدهما في الداخل - وهو ما يسمى بالإرادة - والآخر في الخارج - وهو ما يوصف بأنه تنفيذ للإرادة - والصواب هو أنك وأنت تعمل العمل الذي تسعى به إلى تحقيق أهدافك فأنت عندئذ بجميع سلوكك تجسيد للإرادة وتنفيذها.
ولعلك قد لحظت فيما أسلفناه لك عن «العقل» من أنه هو السلوك الذي يبدأ بفكرة عما نريد تحقيقه وينتهي بتحقيق تلك الفكرة بحيث تصبح كيانا مجسدا، وفيما أسلفناه لك عن «الإرادة» من أنها هي كذلك السلوك الذي يبدأ بالصورة الذهنية التي يراد إخراجها وينتهي بتحقيقها بحيث تصبح كيانا مجسدا، أقول لعلك قد لحظت في هذا القول عن العقل وعن الإرادة أن كليهما واحد، ففي كلتا الحالتين فكرة وتنفيذها في عملية واحدة متصلة أولها رؤية للهدف قبل وقوعه وآخرها وصول لذلك الهدف بعد أن صيرناه كائنا قائما بين الكائنات.
وهكذا الحياة الإنسانية وحدة عضوية قوامها فعل وحركة، لا فرق في ذلك بين تفكير العقل وإرادته.
إنك إذ تنظر إلى الإنسان وهو ينشط بأي ضرب من ضروب النشاط: إذ تنظر إليه وهو يكتب خطابا، أو يقرأ كتابا أو يأكل طعامه، أو يلعب الكرة أو الشطرنج، إذ تنظر إليه وهو يقيم الجدران ويرصف الطرق ويبيع ويشتري ويتكلم ويسمع، إذ تنظر إليه وهو يمشي ويجري ويقف ويجلس ويضحك ويبكي، لا يخطر ببالك أبدا أنك إزاء شطرين في كل عمل من هذه الأعمال التي تنظر إليها، فتقول لنفسك: هذا شطر «الإرادة» وهذا شطر «تنفيذها»؛ لأنك تعلم من خبراتك مع نفسك أن الإرادة هي تنفيذها، وأن الإنسان هو الكل العضوي الواحد الذي ينشط بهذا العمل أو ذاك.
अज्ञात पृष्ठ