فهذا بيت مجيد من أبيات هذه القصيدة العصماء، ولكن حياة ويلكوكس كلها جهاد في الحق والبر وكلها تجارب سامية. نشأ في الهند ثم قدم إلى مصر، فوجد الفلاحين يسخرون بلا أجر في حفر النهر، فعمل على إلغاء التسخير ورفع عنا وصمة قديمة وألما فظيعا كان يعانيه آباؤنا. ثم انتدب تقرير الضرائب فسار بها بالعدل بين الملاك، ثم سافر إلى خط الاستواء بين الزنوج في البحث عن مياه النيل، ووضع الترسيمات للخزان، وانتدبته حكومة العراق لدرس أحوال الري فقام أيضا بهذه المهمة، وهو الآن في شيخوخته الهنية يخدم المرضى ويواسي المنكوبين.
فأية حياة في العالم أحفل من هذه الحياة بالجهاد في سبيل الحق والخير وفي خدمة الإنسان، هنديا كان أم مصريا أم إنجليزيا؟ إنها حياة مملوءة بالتجارب السامية. رأى صاحبها خط الاستواء وحره المزهق وناسه الهمج كما رأى ثلوج إنجلترا وحضارتها الراقية، ورأى الهند كما رأى مصر والعراق، وله ضمير كلما عاد إليه أذكره ببره للفلاح الهندي أو المصري فيرتاح للذكرى ويأنس إلى هذه النفس السخية التي ناداها الحق فاستجابت لندائه واصطرع فيها جو العالم وباطل الوطن فآثر العالم على الوطن. إن في حياة معظم الناس، وفي أخلاقهم، من الجبن والأنانية ما يجعلنا نكره الناس، ولكن في حياة ويلكوكس ما يجعلنا نؤمن بالإنسان وننظر للمستقبل بعين الرجاء حين يصير الحق غاية والعالم وطنا وخدمة الإنسان الغرض الأسمى من الجهاد.
وينوء السير ويلكوكس الآن بهمين ثقيلين من همومنا المصرية، الأول أن الفلاح المصري يزرع الأرض ولا ينال أجرا يسيرا على كده وكدحه، والثاني أننا لا نكتب بلغتنا العامية دون العربية القديمة، وهو يقول بوجوب تحديد الإيجارات بنسبة الضرائب، وأيضا بتدوين العامية حتى يتيسر للفلاح أن يقرأ بأقل عناء، وليس شك في أن الرجل ينوي الخير لنا في كلا القولين، وقد عاش في مصر أكثر من 45 سنة، ومارس من شئون الفلاحة والري ما لم يمارسه كثيرون منا، وعرف الفلاح القديم الذي كان يعمل مسخرا والفلاح الحديث الذي خرج في سنة 1919 يقطع السكك الحديدة ويطلب الاستقلال، ولكني أنا لا أبالي بآراء السير ويلكوكس مقدار ما أبالي بحياته، فهذه الحياة يجب أن تكون قدوة لكل منا؛ لأن هذا الرجل قد عاش تلك الحياة الوفيرة، حياة العمل والجهاد للحق والعدل والخدمة للناس، واحتفظ بصحة الشباب في سن الثمانين وتمتع بأرقى ما يتمتع به الإنسان الراقي من التجارب والاختبارات.
الفصل الثاني والثلاثون
كيف نربي أنفسنا
نحن نعيش مرة واحدة في هذه الدنيا فمن واجبنا أن نعيش فيها أحسن عيش مستطاع، نسكن أجمل المنازل، ونقرأ أفضل الكتب، ونأكل أشهى الأطعمة، ونتمتع برؤية الأقطار المختلفة، ونزداد بتقدم العمر حكمة وصحة وتجارب وعلما.
ولكننا لن نستطيع هذه المعيشة ما لم نعمد إلى أنفسنا فنربيها ونعودها العادات التي تساعدنا على الرقي؛ فإن الجسم الإنساني سريع الطاعة للعادة ينقاد إليها ويؤديها عن رضا وارتياح، وأنت عندما تقرأ سيرة أحد العظماء تعجب لوفرة أعماله وتتساءل: كيف توافر له الوقت أو أسعفته صحته، أو كيف أخلص له أصدقاؤه حتى أمكنه أن يؤدي هذه الأعمال كلها؟
ولكن الواقع أن الوقت والصحة والفرص متوافرة لنا جميعا، وإنما تضيع منا لأننا قد اعتدنا عادات سيئة، فهذا الرجل يرجع فشله في الحياة مثلا إلى أنه يضيع كل يوم من وقته نحو الساعتين في الركود على القهوة وهو قاعد كأنه الماء الآسن، لا حركة ولا تفكير ولا همة، تخرج منه أنفاس الدخان في كسل وتراخ كأنه يريد أن يموت، فهذا رجل لا يتمتع ولا ينتفع بالحياة ولا ينفع غيره.
وثم رجل قد اعتاد عادات سيئة في الطعام، يأكل كثيرا فينام كثيرا، ويسمن ويكره الرياضة فلا يقوى على عمل مفيد، فهذا آخر يعيش كالنبات لا يتمتع ولا ينتفع بالحياة.
وثم رجل قد اعتاد مخاصمة الناس، فهو في نزاع دائم مع كل من يعرف، يقضي وقته في قيل وقال وفي مشاغبات في المحاكم، وهو منغص مشغول في غير شاغل مفيد طول حياته.
अज्ञात पृष्ठ