فإننا قد وضعنا العامل الصناعي والعامل الزراعي في مركز العبد، من حيث قلة الأجر وهوان العيش، بحيث صرنا نتعير من أن نعمل عملهما، والعلوم لا تتقدم إلا بدرس الأشياء العادية، أي بدرس خمائر الجبن أو الخبز أو الكئول أو بدرس أرواث البهائم أو زيوت الوقود أو الأصباغ أو نحو ذلك، وهذه أشياء يتلبس بها العامل الذي نحتقره، فلذلك نحن نحتقرها ولا نحب أن نمسها، وعاد علينا هذا الاحتقار كالسيف القاطع حتى قطعنا عن البحث العلمي، وانصرف شبابنا إلى «الأدب» وصاروا الآن يعنون بقراءة قصيدة أكثر من عنايتهم بوصف طيارة. مع أن صناعة الطيارات أشرف من قرض الشعر، وهي برهان على رقي الذهن العلمي وتفوقه على الذهن الأدبي، فإن الهمج يقرضون الشعر ولجميع الأمم في جاهلياتها القديمة أشعار وقصائد بارعة، ولكن العلم هو ثمرة الذهن الحديث الذي غذي بأوفر مادة من الثقافة والحضارة.
ثم إن احتقارنا للصناعات قد سد علينا طريق الأعمال الحرة التي هي أساس القوة والثروة عند الأمم الراقية، فيجب علينا إذن أن نعمد إلى نهضتنا الحاضرة فنصبغها صباغة علمية وإلى عمالنا فنرفعهم إلى مستوى يحفظ كرامتهم الإنسانية وكرامة الصناعات التي يزاولونها، ثم بعد ذلك لا نحتاج أن نحث الشبان على طرق أبواب الأعمال الحرة.
ويجب أن نغرس في أذهاننا أن وطن العلوم هو المصانع، وأن الأمة المصرية تنتفع وترتفع إلى أعلى درجات المجد إذا أقبل شبابها على الصناعة، وأن العلوم ترتقي لأنها تجد البيئة الموافقة لها في الصناعة التي تغري العالم بالعلم للمكافآت العظيمة التي تقدمها له، ونحن ما زلنا في طور الزراعة من حيث العمل، وطور الأدب من حيث التفكير وكلا الطورين لا يتفقان والعصر الحاضر، فالزراعة التي نمارسها قد باتت من احتكار «الهمج» في إفريقيا وآسيا وأمريكا، والهمج لقلة أجورهم سيطردوننا من أسواق العالم كما رأينا من مزاحمة أقطان أخرى لقطننا.
الفصل الحادي والعشرون
أفخر الأثاث
منذ مدة نشر أستاذ إنجليزي كتابا عن مقياس الكفاية في العائلات فقال إن أفضل ما تقاس به العائلة هو مقدار الأثاث في منزلها ونوعه، فإن الإنسان إذا وقف أمام صورة معلقة على الحائط استطاع أن يحكم على صاحبها ويعرف منها درجة ذوقه وثقافته، فهناك من يعلقون صورة بطلة من بطلات السينما، وهناك أيضا من يعلقون صورة لفينوس ربة الجمال عند الإغريق، وفرق عظيم بين هاتين العائلتين. ثم هناك أيضا عائلات لا تعلق على جدران منازلها أية صورة، كأن الفنون التي مضى على الإنسان نحو عشرة آلاف سنة وهو يحاول أن ينقل إليها هواجس نفسه وعواطفه وعقله لم تخلق لها، أو كأن هذه العائلات تعيش في بداوة خاصة بها، مقصورة عليها، في وسط الحضارة العظيمة التي نعيش الآن بين ظهرانيها ونتقلب في نعمتها، وقد يكون هذا الأستاذ مصيبا أو مخطئا، ولكن الواقع أننا نحكم على درجة الناس ومركزهم الاجتماعي بأثاث بيوتهم، فلا نبالي بالرجل كم يملك من الأرض والعقارات إذا لم نجد بيته منجدا على الطراز الذي ندرك منه حضارة أهل البيت وثقافتهم، ولكن أفخر أثاث المنزل، وأدعاه إلى تقدير أصحابه هو المكتبة.
فالمكتبة هي أفخر ما في البيت من أثاث، فإن المقعد الجميل والمنضدة الملبسة بالصدف، والصورة الفخمة، والسجاد الفاخر الذي حاكته الأيدي الفارسية، والستائر السرية والثريات المتلألئة؛ كلها تدل على الذوق العالي والتبصر الحكيم لأصحاب المنزل، ولكن أفخر منها كلها وآنسها للضيف أو لرب البيت هو المكتبة، فإن المكتبة أثاث حي يؤنسك ويستجيب لك ويلبي شهواتك العليا، فأنت تنظر إلى قطعة الأثاث الجميلة فتغذو عينك بجمالها، ويلذك رؤيتها، ولكن الكتاب ليس جميلا فقط، بل هو يتسرب إلى ذهنك فيجعل ما تملكه من هذا الكون ملكوتا عظيما، ويبسط نفوذك إلى أوسع مدى يستطيعه هذا الذهن، ويكبر شخصيتك حتى تملأ هذا الفضاء كله، وحتى ليس به مكان يخرج عن استعمارك واحتلالك، فأنت بكتب التاريخ مثلا لا تقصر عمرك على سبعين أو ثمانين عاما تعيشها على هذه الأرض، بل تذهب بخيالك إلى ملايين السنين الماضية وآلاف السنين القادمة، فتشعر عندئذ بكبرياء وعظمة أنت جدير بهما؛ لأنك تاج التطور، ولأن جميع الأحياء على هذه الأرض دونك في هذه الذاكرة التي جعلها الكتاب تمتد بنا إلى ملايين السنين الماضية. ثم انظر في كتب السياحة أو العلوم أو الآداب أو الأديان تجد نفسك تشرئب وتتطلع إلى حقائق هذا الكون، وذهنك يلتمع بالخواطر والأفكار التي تهبط على هذه الحقائق وتمسها أو تكاد فترى عندئذ أنك تستعمل ذهنك في أشرف ما يمكن إنسانا أن يستعمل فيه ذهنه، وهو التسلط على هذا العالم بكشف حقائقه.
والمكاتب والكتب إنما هي محاريب الثقافة الإنسانية، وليس شك الآن في أيامنا هذه وخاصة عند الأمم الأوربية من أن الجامعة الحقيقية التي يمكن جميع الناس أن يتخرجوا منها علماء راسخين إنما هي الكتب، كما قال كارليل.
وقد أصبح لهذا السبب من أكبر ضروب البر والعناية بالخدمة العامة أن يتصدق الأغنياء بالكتب والمكاتب المجانية.
ولكن هذه المكاتب العامة لا تغني عن المكاتب الخاصة، ففي كل بيت يجب أن تخصص أجمل غرفة كي تكون محرابا للسكان يغشونها في أوقات فتورهم ونشاطهم ويجدون فيها من الكتب الفاخرة لهوا وفائدة وأغراء يحول دون غوايات هذا العصر، فإن المغرم بالكتب يراها مهواته، يقتنيها للقراءة أو للاستشارة، وينفق على تجليدها وتزيينها ما ينفقه غيره في البطالة المفسدة على القهوات أو في الإكباب على الشراب أو نحو ذلك من المغاوي الكبرى.
अज्ञात पृष्ठ