لقد كان «جيته» الألماني - ولا يزال - مضرب المثل في التمتع بالحياة. كان أديبا وكان عالما، وكان سائحا وكان موظفا كبيرا، بلا السياسة وحنكته الدسائس، وعرف الحب شابا وكهلا، وكان يعرف للطعام الحسن قيمته، ويشرب أجود الخمور في الليل وأجود أنواع الشاي في النهار، فعاش بذلك حياة وفيرة لم يضن فيها على نفسه بشيء من متعها.
ولسنا جميعنا في كفاية جيته، وقد لا نستطيع أن نتمتع بما تمتع به، بل قد تكون بعض متعه آلاما لبعض الناس، وإنما قصدنا أن نقول إنه ينبغي لنا الاعتدال في العمل الذي نزاوله كي تتاح لنا الفرصة للتمتع بالحياة، فإن تعدد وجوهها يقتضي أن نلم بها كي نعرفها دون مبالغة أو إدمان في أحدها.
فالاعتدال فضيلة يدعونا إلى ممارستها الإحساس بالقوة لا الإحساس بالضعف، فيجب على المعتدل ألا يخشى تهكم المتهكمين، وكم في الحياة من متع نجهلها ونحرم أنفسنا منها وهي على مدى الذراع في متناول كل إنسان لو أراد، فنحن نعيش مثلا في مصر التي هي أصل حضارة العالم أجمع بشهادة العلماء، ومع ذلك نجهل آثارها التي تكشف لنا عن تاريخ العقل الإنساني وضلالاته، ونحن نعيش في عصر حافل بالمخترعات والمكتشفات، وأي شيء أمتع للنفس من أن ندرس هذه الأشياء ونجربها. أجل، ندرس آلة الطيارة ونركبها فنغذي الذهن والإحساس معا. أليس من العار أن نموت قبل أن نركب الطيارات ونقضي حياتنا مكبين على عملنا كأننا مسخرون له؟
الفصل السابع
مصلحتك هي مصلحة الجماعة
إنك تعمل ضد نفسك إذا عملت لنفسك فقط؛ لأن مصالحك متعلقة بمصالح الجماعة التي تعيش بينها بل بمصالح العالم كله، وهذه حقيقة عرفتها بعض الدول التي كانت تحارب ألمانيا، فإنها ظنت أن بالقضاء عليها تنفرد هي وحدها بسلطتها في العالم، ولكن خراب ألمانيا عاد بالخراب على أعدائها أيضا لأن أمم العالم متضامنة لا تقدر إحداها أن تبيع شيئا ما لم تقدر الأخرى أن تشتريه، فالنية السيئة التي انطوى عليها بعض الدول لألمانيا عادت عليها هي نفسها بالضرر نفسه الذي عاد على ألمانيا، بل ربما بأكثر منه.
وقد بدأ الإنجليز يدركون مغزى آخر لهذه النظرية في أحوالهم الداخلية فقد رأوا من الرواج في الولايات المتحدة ما تعجبوا له ولم يفهموا سره إزاء الكساد الذي يرونه في بلادهم، وأخيرا عرفوا أن زيادة أجور العمال في أميركا تزيد قدرتهم على الثراء فتروج الأعمال ويعم الرخاء أخذا وعطاء. أما في إنجلترا فإن كل محاولة لإنقاص الأجور تنشر الكساد بين الناس؛ لأن العمال وهم كثرة الأمة لا يستطيعون الشراء، فأصحاب المصانع الذين يريدون رواج مصنوعاتهم لا يمكنهم أن يحققوا ذلك ما داموا يعملون في الوقت نفسه على إنقاص أجور عمالهم، فمصلحة الممول هي نفسها مصلحة الأجير ولا يمكن الممول أن يطلب السعادة لنفسه إذا كان يطلب الشقاء لأجيره لأنهما متضامنان.
وأنت أيضا أيها القارئ لا يمكنك أن تخدم مصالحك ما لم تخدم مصالح الأمة التي تعيش فيها، ولا يمكنك أن تسعد إذا كانت الجماعة التي تعيش حولك شقية؛ لأن شقاءها يعود عليك بالذات فأنت كي تعيش عيشة صحية وكي يسلم أطفالك من الأمراض يجب أن تنشر الصحة والعافية بين الجماعة التي تعيش بينها، وتنتفي الأمراض من بينها لأنه لن يكون أولادك في أمن من المرض ما دام أولاد جارك مرضى، فعنايتك بأولادك تقتضي العناية بأولاد جارك حتى لا تنتقل عدواهم إليك.
ولن تستطيع أن تشرب ماء نظيفا خاليا من جراثيم المرض حتى تحتم وجوب نظافته لجميع سكان البلدة التي تعيش فيها، ولن يكون ولدك آمنا في الطريق من لص يسرقه أو ترام يدهمه أو غبار يملأ عينيه أو منظر يفسد أخلاقه ما لم تسع لجميع الأولاد كي يكون طريقهم آمنا أيضا.
فأنت بوسطك لن ترتفع أكثر مما يرتفع معك، ولن ينزل هو حتى يجرك وراءه، فمصالحنا الذاتية تقتضي أن ننظر إلى مصالح الآخرين لأن خيرهم خيرنا وشرهم شرنا.
अज्ञात पृष्ठ