فإما أنه يريد نقلا حرفيا أو كالحرفي، حيث تأتي الصورة انعكاسا تاما للأصل المصور؛ وعندئذ تنحصر البراعة الفنية في صناعة الرسم نفسها، ولا يكون له من فضل في هذه الصناعة سوى حسن اختياره لموضوعه والحواشي التي يحيطه بها على لوحته؛ ولا يطلب منه عندئذ أكثر من عملية الإدراك الحسي التي يدرك بها دقائق موضوعه تكوينا وتلوينا؛ أعني أنه عندئذ لا يكون بحاجة إلى فلسفة تهديه في عمله سواء السبيل. (ب)
وإما أنه لا يريد هذا النقل الحرفي لما هو ظاهر على سطح الطبيعة، بل يريد أن يلتمس لها حقيقة قد تكون خافية على العين العابرة ؛ وعندئذ ينشأ هذا السؤال: إذا كانت حقيقة الطبيعة أمرا غير ظاهرها، فماذا عسى أن تكون لكي أستطيع إبرازها في صورة فنية؟
وهنا تدخل الفلسفة إلى المسرح بجعبة مليئة بمحصول غني خصب غزير؛ فقد كان أول سؤال ألقاه الفلاسفة على أنفسهم وحاولوا الإجابة عنه منذ القرن الخامس قبل الميلاد هو هذا السؤال بعينه: ماذا تكون الطبيعة في حقيقتها؛ لأن الظاهر وحده لا يكفي لتفسيرها؟ وسأكتفي هنا بعرض إجابة واحدة من إجابات كثيرة، وأعني بها إجابة فيثاغورس الذي قد تعرفونه رياضيا صاحب نظرية في المثلث القائم الزاوية، لكنكم ربما لا تعرفونه فيلسوفا جابه المشكلة الرئيسية التي كانت تشغل فلاسفة عصره جميعا، وهي هذه التي ذكرتها: ماذا عسى أن تكون الطبيعة على حقيقتها؟ وهاكم خلاصة لرأيه:
لئن كانت الطبيعة كما نتلقاها بحواسنا، أي كما نتلقاها بالبصر والسمع واللمس وغير ذلك من حواس، قد تبدو كيفيات مختلفة؛ فألوان مختلفة، وأصوات مختلفة، ولمسات مختلفات، وطعوم مختلفة الوقع على اللسان وهكذا، إلا أن هذا الاختلاف الكيفي كله يرتد إلى اختلاف في الكم؛ فليس الفرق بين شيء وشيء فرقا في العنصر أو العناصر التي يتكون منها كل منهما، ليس الفرق بين قطعة الخشب وقطعة الحديد وقطرة الماء وهبة الهواء فرقا في المادة التي يتألف كل منها من حيث كيفها، بل هو اختلاف في «العدد» أو في «الكمية» هنا وهناك، واختلاف الكمية وحده كفيل أن يحدث على حواسنا اختلافا كيفيا كالذي نراه ونلمسه.
ذلك أننا إذا جعلنا النقطة تمثل عدد 1، فإن الفرق بين النقطة والخط ليس اختلافا في طبيعتهما الداخلية، بل هو مجرد تكرار للنقطة في امتداد معين، فيتكون بذلك خط، ثم إذا حركنا الخط في اتجاه أفقي فإنه يتكون بذلك سطح، وإذا حركنا السطح في اتجاه عمودي تكون بذلك جسم؛ وليس في كائنات الدنيا بأسرها ما يخرج عن هذه الحالات الأربع؛ فإما هو نقطة أو خط أو سطح أو كتلة. ولما كان الاختلاف بين هذه الحالات ليس إلا اختلافا في عدد النقط المطلوبة لبناء كل منها، كان الاختلاف بين طبائعها اختلافا عدديا صرفا: الحد الأدنى في تكوين الخط نقطتان، والحد الأدنى في تكوين السطح المثلث ثلاث نقط، وفي تكوين السطح المربع أربع نقط، وفي تكوين المستطيل ست نقط، وهكذا نستطيع أن نمضي في تصور الأشكال الهندسية - مهما اختلفت - على نحو يجعل طبائع تكوينها متوقفة على اختلاف عددي أصيل في طريقة التكوين.
وقد تقول: افرض أن هنالك مربعا من خشب ومربعا من نحاس، أفلا يكون بينهما اختلاف كيفي بالرغم من اتفاقهما في الشكل الهندسي؟ هنا يجيبك فيثاغورس، ويجيبك معه علم الطبيعة الذرية الحديث، أن لا؛ فخصائص الشيء كائنة في صورته، أي في طريقة تركيبه، لا في نوع مادته كما يبدو ظاهره للحواس؛ فيكفي أن تدرك من الشيء بناءه الهندسي، أو نسبه العددية لتعرف طبيعته على حقيقتها، لبث هذا الكلام من فيثاغورس أمرا غريبا حتى جاءنا علم الطبيعة الذرية اليوم يقول شيئا كهذا؛ فليس الفرق عند هذا العلم بين خشب ونحاس إلا فرقا في التكوين الذري الداخل في كل منهما، وقوام هذا التكوين الذري عدد من الإلكترونات والبروتونات يزيد هنا وينقص هناك؛ فخذ ما شئت من هذه الذرات التي لا تختلف إلا في عدد كهاربها، ثم رتبها على هذا النحو يكن لك قطرة ماء، أو على ذلك النحو يكن لك إنسان من البشر.
هذا التفسير الكمي للكائنات يهيئ لنا فرصة لا يهيئها سواه، في تفسير التباين بين ملايين الملايين من كائنات العالم؛ لأن الأشكال الهندسية والنسب الرياضية لا نهائية الصور، فيستحيل - إذن - ألا نجد بينها صورة تقابل كل كائن من كائنات العالم إن كانت هذه بدورها لا نهائية كذلك؛ وليس الأمر كذلك لو حاولنا أن نفسر العالم الطبيعي بعنصر واحد أو بمجموعة صغيرة من العناصر - كما حاول سائر الفلاسفة في عصر فيثاغورس - لأن هذا التحديد من شأنه أن يضيق بشتى صنوف الكائنات، فإن فسر منها بعضها فهو قاصر عن تفسير بعضها الآخر.
وكان الميدان التطبيقي لهذه النظرية الكمية في تفسير الاختلافات الكيفية، الذي جال فيه فيثاغورس وصال ، هو ميدان الموسيقى؛ فقد كان أول من تنبه إلى أن كل ضروب الاختلاف الكيفي في عالم الصوت، هو في صميمه اختلاف في النسب الرياضية بين أطوال موجاته، فخذ هذه النسبة تكن لك هذه النغمة في الأذن، وخذ تلك تكن لك أخرى.
ولو اتخذنا النظرية الفيثاغورية أساسا لوجهة نظرنا إلى العالم، وجدنا هذا العالم مما يمكن وصفه بلغة الرياضة وحدها: أشكالا هندسية وأعدادا حسابية على السواء.
فضع هذه النظرة نصب عينيك، وانظر إلى مدارس الفن الحديث؛ أفلا ترى معي أن الفنان التكعيبي هو فيثاغوري المذهب لحما ودما؟
अज्ञात पृष्ठ