وإن هذين النمطين اللذين يرمز إليهما الثعلبان الشقيقان «دمنة» و«كليلة»، ليذكراننا بطائفتين من أبناء المجتمع الواحد، أقام عليهما العالم الإيطالي الحديث «باريتو» نظريته في تحليل تطور الجماعات، خصوصا في فترات الانتقال الحضاري من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى تجيء بعدها (وكان ذلك في كتابه «العقل والمجتمع» الذي أصدره قبيل وفاته سنة 1923م بأعوام قلائل)؛ فلقد استخدم «باريتو» رمزين، هما «الأسود» «الثعالب»، ليدل بهما على طائفة تحافظ على القديم الثابت المأمون، وطائفة ثانية تغامر وتخاطر.
فلكل تحرك اجتماعي «أسوده» و«ثعالبه». أما «الأسود» فهم الذين يريدون أن يجيء التحرك في إطار الأخلاق كما تعارف عليها الناس، ويودون أن تصان العقائد والتقاليد وقواعد العرف، وأما «الثعالب» فدستورهم الجرأة والمغامرة في ظلام المجهول بلا حذر، وعمادهم الدهاء والمراوغة، لا القواعد المعروفة المكشوفة، وإن «الأسود» و«الثعالب» ليتجاوران معا في كل جماعة وفي كل عصر، ويكون الاختلاف في أي الفئتين يكون لها الغلبة في الجماعة المعينة أو العصر المعين؛ فالغلبة في حالات الاستقرار المطمئن تكون لجماعة «الأسود»، وأما في عهود التحفز للوثوب، فالغلبة تكون لجماعة «الثعالب»؛ فإذا كانت السيادة للأسود، أحيطت النظم القائمة بما يشبه القداسة، فلا يسمح لأحد أن ينال منها بأكثر من التغير الطفيف، وإذا كانت السيادة للثعالب، كان تغيير النظم والقواعد والقوانين هو الأساس.
والفرق الواضح بين ثعالب «باريتو» وبين «دمنة» - وكلاهما من نوع الثعلب، وكلاهما يستهين بالوسائل من أجل تحقيق غاياته - هو أن ثعالب «باريتو» طائفة في المجتمع تعمل على التغيير من أجل تطور حضاري يصيب الجميع، وأما «دمنة» فثعلب يمكر من أجل نفسه، وعلى حال فكلتاهما ثعلبة لا يستطيعها إلا من أوتي القدرة على تحطيم العرف المألوف، لكن ذلك يتم على صورتين؛ إحداهما تتم خلسة وخداعا، من أجل صالح فردي لا شأن للجماعة به، وتلك هي طريقة «دمنة»، والأخرى قد تتم جهرا وعلانية، حتى لقد تتخذ صورة الثورة الصارخة، من أجل صالح المجموع كله، وتلك هي طريقة الثعالب في تقسيم «باريتو».
ونترك «باريتو» بأسوده وثعالبه لنعود إلى ما أردنا الحديث فيه عن «دمنة» و«كليلة»، فنطرح السؤال: لأيهما الغلبة في حياتنا الحاضرة يا ترى؟ أهي لدمنة الذي يمكر في الخفاء ليصل، أم هي لكليلة الذي حفظ دروس الأخلاق كما أوصى بها المثل الأعلى؟ إنني لتحضرني الآن قسمة ثالثة ذكرها المتنبي ذكرا سريعا في بيت من شعره، حين قسم الأمر بين «النواطير» - أي رجال الحراسة - و«الثعالب»، ولعله كان قد أضمر في نفسه سؤالا كهذا الذي طرحناه (وكان حديثه عن مصر)، ثم أعلن الجواب، كما رآه في يومه، وهو أن النواطير قد نامت فغفلت عن الثعالب وفعلها، حتى لقد عاشت هذه الثعالب وسلمت وامتلأت بطونها، فلعل ليومنا جوابا عن سؤالنا، غير جواب المتنبي ليومه.
من هو الناقد؟
1
ألقى الأستاذ يوسف السباعي سؤاله هذا في سباق غاضب غضبة المظلوم على قاضيه، فلم تعد المسألة في رأيه مسألة الحكم وعدالته، ولكن أعمق من ذلك جذورا؛ لأن مناقشة الحكم وعدالته يسبقها سؤال حقيق بأن يلقى وينتظر الجواب: فمن ذا الذي أجلس القاضي على منصة القضاء؟ هكذا يعرض الأستاذ الأديب مشكلته وهو في ثورة غضبه من النقاد في «سخافاتهم وأحقادهم وكلامهم غير المفهوم»، فيمضي في حديثه ليسأل: «ما هي المميزات التي يجب أن يتميز بها إنسان معين لكي نقول عنه إنه ناقد؟»
إنه ليقال حقا إن السؤال المحكم أعمق أثرا في تاريخ الفكر من جوابه؛ لأن إلقاء السؤال السديد هو في الحقيقة إيذان بقيام حركة فكرية واسعة أو ضيقة، ثم تتتابع الإجابات متفقة أو مختلفة، لكنها في اتفاقها واختلافها تكون حركة فكرية واحدة ما دامت دائرة حول محور واحد، ولا تبدأ حركة جديدة إلا إذا نهض سائل آخر بسؤال جديد من هذه الأسئلة الخصبة المتحدية الشاحذة للعقول، وأعتقد أن سؤال الأستاذ السباعي هو من هذا القبيل؛ فقد كان لدينا نقد يغزر حينا ويضحل حينا، وكان لنا نقاد يعنف بعضهم مع بعض أو يتقارضون الثناء، لكني لا أذكر قبل الآن أن قد طرح السؤال الذي يتناول الجذور قبل أن يجادل في الفروع: من هو الناقد؟
ولو كان للنقد القائم محترفون وهواة، فأنا من هواته، أصحو له عاما وأرقد منه أعواما، ولست أدري إن كان لهواة الأدب والفن ما للمحترفين من حق في أن يتصدوا للسؤال المطروح بجواب أو محاولة جواب، فإن وجدني القارئ على ضلال رجوت المغفرة وهداية السبيل.
2
अज्ञात पृष्ठ