2
لو كان الناقد الواحد ذا قدرة خارقة، لتناول العمل الأدبي الواحد من كل وجهات النظر التي يفتح الله بها عليه، حتى يستوعب شتى الأبعاد التي يمكنه بلوغ آمادها بادئا من النص الأدبي الذي بين يديه، فيبدأ - مثلا - بتحليل بنائه اللغوي كلمة كلمة، وعبارة عبارة، بل أخشى أن أقول حرفا حرفا فيظن القارئ أني مازح، غير عالم بأن مثل هذا التحليل هو ما يدعو إليه رجال من أعظم رجال النقد المعاصر، مثل كنيث بيرك، ويقوم بتطبيقه فعلا على بعض الآثار الأدبية، فمن يدري؟ ألا يجوز أن يكون تكرار حرف بعينه عند شاعر أو كاتب، بنسبة ملحوظة، دالا على شيء؟ وسأعود إلى ذكر هذا الاتجاه النقدي مرة أخرى في هذا المقال؛ لأنه الاتجاه الذي أوثره على سواه، ما دام الناقد ذا قدرة محدودة تضطره إلى الاكتفاء باتجاه واحد في حياته النقدية، لكننا بدأنا القول بافتراض نظري، وهو أن يوجد الناقد الواحد ذو القدرة الخارقة، فعندئذ لا يمنعه مانع من أن يطبق على العمل الأدبي الواحد كل اتجاه ممكن؛ إذ ماذا يمنع بعد أن يفرغ من تحليل العمل الأدبي من حيث البناء اللغوي، بل والمفردات اللغوية، ماذا يمنع بعد ذلك أن يعود إلى النظر ليرى العلاقة بين هذا العمل الأدبي وحياة مؤلفه، فتراه عندئذ يغوص في سيرة حياة ذلك المؤلف بكل دقائقها وتفصيلاتها ليجد الروابط بينها وبين دقائق العمل الأدبي وتفصيلاته؟ وأقل ما يقال في ذلك هو أن يحاول الناقد ربط العمل الأدبي المعين بغيره من الأعمال عند الأديب الواحد، ما سبقه منها وما لحقه؛ لأن الحياة الأدبية عند هذا الأديب سيرة واحدة، وكل واحد، ولا يفهم الجزء منزوعا من الكل إلا فهما ناقصا، بل إن هذا الأديب في مجموعه جزء من حركة أدبية شاملة، في بلده، وفي عصره كله، فلماذا لا نلتمس الروابط بين عمله من ناحية وعصره الأدبي من ناحية أخرى؟ وهل يستحيل على الأديب أن يجيء متأثرا بموروث أدبي قديم؟ إذن لا بد من ربط هذه الصلات كلها لنفهم العمل الأدبي الذي نتصدى لفهمه، وهذا هو اتجاه في النقد الأدبي ينفرد به نقاد معينون.
فرغ ناقدنا ذو القوة الخارقة من نظرتين؛ فرغ من التحليل اللغوي، ثم أعاد النظر حتى فرغ من ربط العمل بسيرة مؤلفه، واضعا تلك السيرة في عصرها، وفي موضعها من التاريخ الأدبي، فهل ثمة مانع يمنعه - إذا بقيت له بقية من طاقة وامتداد من زمن - من إعادة النظر مرة أخرى لينظر إلى العمل الأدبي ذاته من زاوية التحليلات النفسية بكافة صنوفها؛ فرويد، وآدلر، ويونج، ومن شئت من هذه الزمرة كلها؟ إن ثمة مدرسة نقدية تخصص نفسها للنقد النفسي هذا، على اختلاف أعضائها فيمن يكون عالم النفس الذي يحتذونه في التحليل، لكن ناقدنا صاحب القدرة الخارقة لا يجد مانعا يمنعه أن يطبق كل هؤلاء على العمل الأدبي الذي بين يديه ليزداد فهما له من زوايا جديدة، ومن مستويات مختلفة، ويفرغ من هذا، فلا يمنعه مانع من أن يعيد النظر مرة رابعة وخامسة وسادسة وما أرادت له قدراته من مرات، فينظر مرة في المضمون السياسي الكامن في العمل الأدبي، وكيف يكشف عن مذهب كاتبه، وفي المضمون الاجتماعي الذي يزيح الستر عن الطبقة التي نشأ فيها، والطبقة التي يثور عليها، وما إلى ذلك من حديث، وينظر مرة في الناحية الخلقية من العمل الأدبي ليرى أي المبادئ الخلقية يدعو إليها الكتاب ، وهل من شأن تلك المبادئ أن تشيع فضيلة أو رذيلة؟ هل يسمو هذا الكتاب بقارئه إلى مثل أعلى أو هل يهبط به إلى درك خلقي أسفل؟
لا، ليس عند العقل مانع منطقي يأمر بألا يكون عند الناقد إلا نظرة واحدة للعمل الأدبي الذي يعالجه، لكنه الواقع التجريبي هو الذي يفرض علينا قصور الجهد وقصر العمر، فنؤثر أن يكون لكل ناقد وجهة ينحو إليها بحكم ميله ومزاجه، على أن يكون مفهوما وواضحا أن هذه الوجهات كلها «تتكامل» وتتعاون على تفسير العمل الأدبي المراد تفسيره، فليس يعقل أن القراء - عامة القراء الذين من أجل تنويرهم كتب النقد - ليس يعقل أن هؤلاء القراء يخسرون بتعدد النظرات النقدية إلى الكتاب الواحد، بل الكسب محقق لهم بهذا التعدد.
أقول هذا عن عقيدة وإيمان؛ ولذلك فإني أعجب غاية العجب حين أرى النقاد يصطرعون - أي والله إنهم يسمونه صراعا - يصطرعون؛ فهذا يقسم للناس أغلظ الأيمان أن النقد إما أن يكون موضوعيا - مثلا - أو لا نقد، فيتصدى له الآخر بأيمان أغلظ وأضخم بأنه قد افترى على النقد كذبا، وأن النقد إما أن يكون أيديولوجيا أو لا يكون إطلاقا، وهكذا وهكذا مما أراه وأسمعه فأعجب لما أرى وأسمع؛ لأنني - كما أسلفت - أجد المذاهب النقدية وجهات للنظر تتكامل ولا تتصارع، فكلها سبيل إلى أن يزداد عامة القراء فهما للكتاب المعين، من زوايا كثيرة، بدل أن يفهموه من زاوية واحدة.
3
ولقد وقع «صراع» من هذه الصراعات ذات يوم بيني وبين المرحوم الدكتور مندور، وكان ذلك سنة 1948م، فكان موضوع السؤال بيننا هو: هل يكون النقد الأدبي قائما على «الذوق» أو قائما على «العلم»؟ وأستغفرك اللهم ربي إن أفلت من القلم ما يكذب به على التاريخ، ولكن لماذا يفلت من القلم مثل هذا الكذب، والأمر كله قد سجلته لنا المطبعة في كتاب نشرته سنة 1956م (قشور ولباب)، وإنما أتحفظ بهذا القول؛ لأن ما كنت رددت به على المرحوم الدكتور مندور، وما كان قد أنكره علي أشد إنكار، عاد الدكتور مندور بعد سنين ليأخذ به أخذا حرفيا - كما يقولون - وهو الآن من الجوانب التي تحسب له في تاريخه النقدي دون أن يقع بصري مرة واحدة عند أولئك الحاسبين، على ذكر الأصل الذي يرتد إليه ذلك الجانب من موقفه؛ فقد كان الدكتور مندور - في ذلك «الصراع» - ينادي بأن النقد قوامه كله ومرجعه كله إلى التذوق، فقلت له فيما قلت إن في ذلك خلطا بين «قراءتين»؛ فالقارئ (الذي سيصبح ناقدا) إنما يقرأ القراءة الأولى فلا يسعه بحكم الذوق الأدبي الخالص إلا أن يحب ما قرأه أو أن يكرهه، وقد يقف عند هذا الحد، وعندئذ لا يكون ثمة نقد قد ولد بعد، لكنه قد لا يقف عند هذا الحد، ويهم ب «الكتابة» ليوضح وجهة نظره؛ أعني ل «يعلل» رأيه بالعلل التي تسنده وتؤيده، و«التعليل» عملية عقلية؛ لأنه رد الظواهر إلى أسبابها، ومعنى ذلك أن الذوق خطوة أولى «تسبق» النقد، وليس هو النقد؛ إذ النقد يجيء تعليلا له، والذوق يسبق النقد بمعنى آخر أيضا، وهو أن القارئ (الذي سيصبح ناقدا بعد القراءة) يختار مادة قراءته بذوقه، فلماذا يقرأ هذه القصة دون تلك؟ الحكم هنا للميل الذوقي، لكنه إذا ما قرأ وتذوق بالحب أو بالكراهية، فربما عن له أن «يبدأ» بعد ذلك عملية تحليل وتعليل تكون هي النقد، وعندئذ يكون النقد عملية عقلية؛ لأن كل تحليل وكل تعليل هو من العمليات العقلية الصرف.
وقد أخذ الدكتور مندور بعد ذلك بأعوام بفكرة «القراءتين» هذه، دون أن يذكر الذي أوحى إليه بها، ثم جاء الأنصار فحسبوها له، غفر الله لنا ولهم، وشملنا جميعا برحمته.
ولم أكن لأذكر شيئا من هذا لولا أنني أردت أن أعود إلى هذه المشكلة من جديد في هذا السياق: أيكون النقد للذوق أم للعقل (والعقل معناه المنهجية العلمية)؟ وجوابي مرة أخرى هو أن الأمر ليس «إما ... أو ...»، بل هو إضافة بواو العطف، فذوق يختار ما يقرؤه ويحب ويكره، وعقل يعلل ويحلل ليفسر فقط دون تدخل لعنصر التقويم من كراهية وحب. بالذوق نعد المادة الخامة التي نقدمها للنقد، وبالعقل الذي يحلل ويعلل نقوم بعملية النقد نفسها.
وإن الناقد في تحليله ذاك أو تعليله ليستخدم كل ما يستطيع استخدامه من علوم تتصل بعمله؛ فهو يستخدم علم النفس بكل ما قد وصل إليه من نتائج، وذلك حين يحاول النظر إلى العمل العلمي من هذه الوجهة التي تتسلل من خلال النص إلى أعماق اللاشعور عند كاتبه، وهو يستخدم الأنثروبولوجيا بكل ما قد وصلت إليه في بحوثها الحديثة، لتعينه على استخراج العناصر الأسطورية المتصلة بحياة الإنسان في طفولتها وبكارتها، ولنلاحظ هنا أن الفولكلور يمكن أن يعد فرعا من الدراسة الأنثروبولوجية، ولا شك أن الاهتمام الحديث بهذا الفرع قد يكشف للناقد عما ينطوي عليه العمل المنقود من جذور ضاربة في صميم النفس الإنسانية كما تتبدى في مأثوراتها الشعبية؛ إما على نطاق قومي ضيق، وإما على نطاق إنساني واسع، وكذلك يستخدم الناقد الدراسات اللغوية الحديثة - وقد كثرت وتشعبت - ليفيد منها ما أسعفته ملكاته النقدية، عندما ينظر إلى الأثر الأدبي نظرة التحليل اللغوي لكلماته وعباراته، وما تدل عليه داخل النفس أو خارجها، بل إن الناقد ليستخدم العلوم الطبيعية الحديثة نفسها في عمله، وأول ما يذكر في هذا الصدد استخدامه للمنهج التجريبي الذي نما ودق في مجال تلك العلوم، ثم نذكر بعد ذلك نظريات علمية بعينها كانت بعيدة المدى في تأثيرها على الفكر المعاصر، الذي يتجسد في الأعمال الأدبية كما يتجسد في سواها، من ذلك - مثلا - نظرية التطور بكل فروعها، ونظرية النسبية، ونظرية المجال، ونظرية اللاتعين والاحتمال، وقل ما شئت فيما يمكن أن يفيده الناقد من الفلسفة حديثها وقديمها على السواء؛ من الوجودية، والظاهراتية، والمادية الجدلية، والوضعية المنطقية، فراجعا إلى أرسطو وأفلاطون.
अज्ञात पृष्ठ