كلا، فهي ساق وفروع وأوراق، وهي تهتز مع الريح يمنة ويسرة، ولها في كل لحظة زمنية وضع جديد، من ذا الذي يزعم أن ما أراه من هذه الشجرة حتى في هذه اللحظة الزمنية الواحدة هو شيء واحد، في الوقت الذي أرى لونها وحده مؤلفا - عند من يدقق النظر - من مئات الدرجات اللونية، بل اللون الأخضر وحده، كما أراه في أوراقها يغمق هنا ويخف هنا، ويسود حينا ويصفر حينا؟
هي إذن آلاف من عناصر اللون تأتيني، وتستطيع أن تضيف إليها حفيفها كلما اهتزت مع الريح، وغير ذلك من إحساسات تنطبع بها حواسي.
لكن هذه العناصر الأشتات التي تعد بالآلاف ما أزال أقول عنها إنها شيء واحد ذو كيان واحد، فعلى أي أساس أزعم لهذه الشجرة وحدانيتها على كثرة عناصرها؟
الجواب عند «كانط» هو أن فاعلية الإنسان المبدعة الخلاقة هي التي تتصرف فيما يرد إليه هذا التصرف البارع؛ فهي التي تصب الأشتات في وحدة، ولولا تلك الفاعلية الموحدة العجيبة، لظل العالم على فوضاه التي يأتينا بها؛ إذ يظل في أعيننا وفي آذاننا خليطا من إحساسات آتية إليها من هنا وهناك.
وإني لأطلب من القارئ صفحا عن هذه اللمحة الفلسفية التي اضطررت إلى ذكرها اضطرارا؛ لأنتهي منها إلى ما أريد أن أنتهي إليه، وهو أن فاعلية الأديب في خلق أشخاصه هي نفسها هذه الفاعلية الفطرية التي يدرك بها الأشياء، لولا أن هذه الفاعلية الفنية لم تكتب إلا لنفر قليل، لكن طبيعة الفاعلية في الحالين واحدة.
فكيف «أفهم» هذا الإنسان أو ذاك ممن أصادفهم في مجرى الحياة إذا لم أكن قادرا على أن أضم أحداث حياة كل منهم في وحدة تكون هي شخصيته؟
كيف أقول - مثلا - عن فلان إنه مرهف الحس، وعن آخر إنه غليظ فظ؟
كيف أقول عن فلان إنه ذو شهامة وهمة، وعن آخر إنه نذل جبان؟
ألا يكون ذلك الحكم مني على هذا أو ذاك من الناس بمثابة من يلتمس خيطا واحدا يربط به آلاف المواقف والحوادث التي منها تتألف حياته؟ إن ما يدركه الحس من فلان أو فلان هو حالة بعينها في لحظة بعينها، أما أنه مرهف أو غليظ، شهم أو نذل، فذلك ما لا تراه العين أو تسمعه الأذن فيما ترى وتسمع، لكنه فاعلية رابطة نستخدمها من أنفسنا لنخلعها على الكثرة المبعثرة فتصبح وحدة واحدة.
ومع ذلك ففاعلية الأديب أمعن من ذلك كله في الخلق والإبداع؛ لأنه لا ينظر إلى مجموعة من الحالات صادرة كلها عن مصدر واحد، ثم يصبها في وحدة تكون هذا الشخص أو ذاك ممن يعرفهم في حياته العملية.
अज्ञात पृष्ठ