وموجز الرأي الذي سأتناوله بشيء من التفصيل، هو أن الجانب المشاهد من حياة الإنسان قوامه أحداث يتلو بعضها بعضا، فهو يعمل آنا ويلهو آنا، ويصحو آنا ويغفو آنا، لكن هذه الأحداث المرئية في حياته الجارية ليست كلها سواء في الكشف عن حقيقة نفسه، إلى الحد الذي يجعلنا نحكم أحيانا على ضاحك بأنه وإن يكن الضحك هو ظاهره إلا أن البكاء هو ما يخفيه؛ فلو جاز لنا أن نقول عن الحوادث الظاهرة من حياة الإنسان إنها أحد أبعادها، كانت الينابيع النفسية الداخلية التي عنها ينبثق السلوك الظاهر هي البعد الثاني.
ولو عرفت من إنسان ينابيعه النفسية تلك، كنت بالبداهة أكثر فهما له مما لو اقتصرت على ملاحظة سلوكه الظاهر، على أن تلك الينابيع النفسية بدورها ليست آخر المطاف، بل تستطيع أن تحفر وراءها لترى القيمة العليا، أو إن شئت فقل المبدأ الأول الذي هو من حياة ذلك الإنسان المعين بمثابة المقدمة التي عنها تتولد مفاتيح نفسه، وعن هذه المفاتيح تصدر أنغام حياته المسموعة.
فقد يصادفك رجلان متشابهان في سلوكهما الظاهر، كأن تراهما مثلا يعبدان الله صلاة وصوما وإيتاء للزكاة، فيكون هذا السلوك منهما هو البعد الأول في حياتيهما، لكنك تنفذ ببصرك خلال هذا السلوك فإذا المصدر النفسي عند أحدهما توبة وندم لما فرط منه في أيامه الماضية، على حين يكون المصدر النفسي عند الآخر تقوى خالصة لوجه الله لا يرجو بها نفعا ولا يتقي ضرا؛ فيكون هذا المصدر النفسي عند كل منهما هو البعد الثاني من حياته، لكنك ربما حفرت وراء ذلك في نفسيهما فوجدتهما يعودان فيلتقيان في قيمة عليا هي الشعور القوي بما يعانيه الإنسان في حياته الفردية من وحشة وعزلة، وأنه بحاجة إلى كائن روحاني أسمى ليصل وجوده بوجوده.
أو ربما حفرت وراء المصدر النفسي عند كل منهما فوجدت كلا منهما يرتد في الحقيقة إلى جذور غير الجذور التي يرتد إليها زميله؛ فقد يكون أحدهما صادرا في النهاية عن اعتقاد بقيمة نفسه، وبأنه في هذه الدنيا يشرع لنفسه؛ ولذلك فهو يعمل ما يحقق ذاته بغض النظر عن أي شيء آخر في الوجود كله، على حين يصدر الثاني عن مبدأ آخر، هو أنه في هذه الدنيا مخلوق صغير ضعيف، يؤمر فيطيع، ومهما يكن من هذه القيم العليا، وهل يتفق فيها الناس أو يختلفون، فهي على كل حال بمثابة البعد الثالث من حياة الإنسان، وبمقدار ما تدرك من إنسان أبعاده تلك يكون فهمك له.
وكذلك قل في أديب القصة إنه بمقدار ما يصور أشخاصه تصويرا يكشف عن أبعادها كلها يكون توفيقه في عمله الفني، ودعواي ها هنا هي أن الكثرة الغالبة من نتاجنا القصصي إنما يقف بها أصحابها عند البعد الأول من أبعاد الحياة الإنسانية؛ إذ يقفون بها عند مستوى الحوادث وتعاقبها واتصالها بعضها ببعض، لكنهم يندر جدا أن يحتاروا من الحوادث، وأن يسوقوا ما قد اختاروه سياقا ينم عن الينبوع الداخلي الذي انبثق منه سلوك هذا أو سلوك ذاك من أشخاصهم، ودع عنك أن يسعفهم الفن في كشف البعد الثالث ممن يتعرضون لتصويرهم.
ولو صحت هذه الدعوى التي أدعيها، لكان أمام الأدب القصصي عندنا شوط فسيح لا مندوحة له عن السير فيه قبل أن يدنو من القمة التي تجعل منه أدبا عاليا.
2
ولنبدأ الأمر من بدايته فنسأل: كيف يتاح للإنسان أن يدرك أي شيء يدركه؟
كيف يتاح لي أن أنظر إلى هذه الشجرة التي أراها من حيث أجلس إلى مكتبي، فأقول إنها شيء واحد ذو كيان واحد؟
ألانها هي في حقيقة أمرها كذلك؟
अज्ञात पृष्ठ