على أن ل «الجديد» معنى آخر يألفه المتتبع لتاريخ الأدب والفن، وهو أننا كلما استنفدنا القيم الجالية القائمة ظهر لنا أديب أو فنان بقيم جمالية جديدة؛ لا لأن الجديد هنا «أفضل» من القديم، بل لأننا على مائدة الطعام جالسون، وقد فرغنا من طبق وننتظر طبقا يليه مختلفا في صنفه وفي طريقه طهوه، وسرعان ما نفرغ من هذا وننتظر مرة أخرى ما يليه وهلم جرا، أو قل إن رجال الأدب والفن - وهم المسئولون عن تغذية حساسيتنا بالجمال - يشغلوننا دائما بدرة جديدة مغطاة بصدفتها، فنأخذ في إزالة الصدفة لنكشف عنها، وليبهرنا جمالها حينا، ريثما يقدمون لنا صدفة جديدة فيها درة جديدة. وأيا ما كان الأمر، فطلب «الجديد» قد شغل عصرنا وشغل أدبنا، حتى ليصح أن نجعله طابعا مميزا للإنسان الجديد.
4
وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، ونشأت طائفة من الشباب المتأدب القارئ في العقد الثالث من هذا القرن - في العشرينيات - أرادت أن تصم آذانها عن الحرب، وعن كل ما قد أدى إلى قيامها. فإذا كان هنالك أدباء مهدوا لها، فهم عند هذه الطائفة الجديدة أدباء لا يستحقون منهم احتراما، كلا، ولا تستحق الحياة التي مثلوها في أدبهم نظرة واحدة من التفات جاد، فلا هؤلاء الأدباء ولا الحرب التي مهدوا لها بأدبهم جديرة بنقد الناقدين، وعلى الأدب الجديد أن ينحو نحوا جديدا؛ فكل معيار كان يقاس به الأدب والأدباء قبل نشوب الحرب، قد أصبح في عين هذه الطائفة الجديدة من الشباب المتأدب القارئ معيارا باطلا؛ فلم يعد «برنارد شو » عندهم هو ذلك العملاق الذي كان، على الرغم من أنه لم يتحمس للحرب، وعلى الرغم من أن بعض مسرحياته ظلت بعد الحرب تجتذب الأنظار، وعد «أناتول فرانس» كأنه مات ولم يعد له أدب تدب فيه الحياة، على الرغم من أن كتبه لبثت حينا تطبع مرة بعد مرة، لا، لم يعد عمالقة الأدب فيها قبل الحرب يستحقون عند هذا الشباب الساخط الثائر شيئا، فماذا يريدون؟ يريدون أدبا جديدا في كل شيء؛ في شكله ومضمونه، في مبعثه ومرماه، يريدون أدبا يعبر لهم عن السخط بأية صورة ممكنة، سواء كان تعبيرا عن طريق السخرية الضاحكة الهازئة، أو عن طريق المقت الأسود الجاهم. وما دام هو يعبر عن خيبة الرجاء وضيعة الأمل، فلا بد بالضرورة أن يكون أدبا منطويا على نفسه؛ أدبا يلتفت إلى داخل النفس لا إلى خارجها، أدبا يساير أو قل إنه يشق الطريق أمام سحرة العصر العلمي الجديد، وأعني بهم جماعات التحليل النفسي الذين ألقوا في الميدان بمصطلحاتهم التي جذبت أنظار المثقفين جذبا يتميز بحرارة العاطفة المتحمسة أكثر مما يتميز بدقة العلماء.
أراد متأدبو العشرينيات أدبا ينكمش على نفسه ليكون ملكا للخاصة وحدهم، ولا يبعثر نفسه على عامة القراء، فلم تعد هذه العامة هدفا مقصودا، لا، بل لعل الأدباء عندئذ أرادوا متعمدين أن يجيء أدبهم على صورة يعجز عامة القراء دون فهمها، فلا عليهم إن فهمتهم أو أعجبت بهم دهماء المتعلمين (ولعل هؤلاء الأدباء قد فاتهم أنهم كلما باعدوا بين أدبهم وبين عامة القراء، اشتد انجذاب هذه العامة إليه؛ ليتخذوا سمات الخاصة). ومهما يكن من أمر، فقد ساد الاعتقاد في الدوائر الأدبية أن الكاتب فنان، وليس هو منوطا بتسلية الجماهير؛ ولذلك فواجب عليه أن يضع أدبه في صورة عسيرة الفهم، لا يدري أوساط القراء كيف يقرءونه، لا لأنه يضع في أدبه فكرا أصيلا، ويعبر به عن مشاعر لطيفة دقيقة فحسب - فذلك قد صنعه كل الأدباء من قبل - بل لأن واجب الأديب الجديد عندئذ قد أصبح يحتم عليه أن يقيم حاجزا بين فنه وبين ذوي العقول البليدة والأنفس الخفيفة الرعناء، وكان من أهم العوامل التي زادت الأديب الجديد عنادا وإمعانا في التعالي على مستوى الدهماء، تلك الوسائل الآلية التي جاءت مع العصر العلمي الجديد - كالسينما والإذاعة - مما أوشك أن يخضع الإنتاج الثقافي إلى قواعد الإنتاج الكبير، فتصبح الكتابة كتابة بالجملة، والقراءة قراءة بالجملة، ومعايير النقد معايير بالجملة، والقيم الفكرية كلها قيما بالجملة؛ فلا أقل - إذن - من أن يحمي الأديب نفسه من هذا الهجوم الفاتك، ووسيلته إلى هذه الحماية الواقعية هي أن يجعل من الأدب المألوف أدبا مستعصيا إلا على الدارسين؛ وبهذا تغير موقف الأديب الجديد من أساسه، فبعد أن كان المثل الأعلى دائما هو «السهل الممتنع» - السهل على جملة القارئين، ولكن إنشاءه ممتنع عليهم - أصبح المثل الأعلى الآن هو «الممتنع الممتنع»؛ فهو ممتنع على جمهور القارئين إنشاء وفهما على السواء، كأنما أراد الأديب الجديد لأدبه أن يكون كالحرم المقدس، لا تطؤه إلا الأقدام المطهرة، حتى وإن جاء ذلك على حساب تضحية كبيرة من الشهرة والمال، ولك أن تراجع قائمة الآيات الأدبية التي ظهرت عندئذ لترى كيف تلتقي كلها في هذا التعسير على جمهرة المثقفين: «يولسيز» لجيمس جويس، و«الأرض اليباب» لإليوت، و«مسز دالواي» لفرجينيا وولف، و«الجبل المسحور» لتوماس مان، و«القلعة» لكافكا، وغيرها.
وسمة أخرى ميزت أدب العشرينيات غير صعوبته المتعمدة، وتلك هي أنه لم يعد أدبا قوميا، بل ولا إقليميا، كأنما هو رد فعل لتلك الحرب الضروس التي أشعلتها الحماسة الوطنية ذات الأفق الضيق والآمال التافهة، وجاء الأدب عندئذ ليعلو على هذه الحماقة وهذا الجنون، وباتت الشهرة الأدبية مرهونة بمجاوزة الأديب هذه القيود المكانية وتحليقه في أجواز تعم الإنسانية جميعا؛ ولذا ترى الأنماط التي يصورها الأدباء عندئذ هي تلك التي قد تصادفها في أي بقعة من بقاع الأرض، وليست هي الأنماط المصطبغة بالألوان المحلية المميزة، وفي هذا تفسير لكون أدباء ذلك العهد لم يتخذوا أوطانهم الأصلية مكانا لإقامتهم؛ فهذا «رلكه» يتنقل بين باريس والنمسا، وهذا «بروست» يقيم في باريس ، ولكنك مع ذلك لا تقرؤه لتقرأ شيئا عن باريس، ولا لتقرأ شيئا عن الفرنسيين عامة. نعم إن «جيمس جويس» لا يكتب إلا عن بلده دبلن، لكنه مع ذلك لا يقدم إلينا قصة يقال عنها إنها معبرة عن الروح الإيرلندية، و«كافكا» لا يحدثك عن براج، و«إليوت» لا يكاد يعطيك الإشارة الدالة على قوميته.
فماذا كان موقف أدبنا العربي في العشرينيات؟ هل شاركنا أدباء الغرب في اتجاههم نحو التصعيب والتخصيص والانطواء والنزعة الدولية؟ كلا؛ لأن ظروفنا عندئذ كانت على نقيض ظروفهم؛ فلو استثنينا أمثلة قليلة من الميل نحو البعد عن عامة الجمهور القارئ - كما يبدو ذلك - مثلا - في قصيدة «العقاد» «ترجمة شيطان» - لوجدنا على مسرحنا أدبا سياسيا يشتعل حماسة، ويريد أن يشعل النفوس نارا. أي نفوس؟ لا نفوس الخاصة وحدهم، بل نفوس العامة من الفلاح في القرية فصاعدا إلى أستاذ الجامعة؛ فالشعر وطني، والمقالة سياسية، والقصة ريفية، والمسرحية اجتماعية، وهكذا؛ فالحرية هي الهدف، وكل سبيل موصل إليها هو سبيل مشروع.
الحق أن موقف الغرب في القرن العشرين إزاء نفسه وإزاء العالم، مختلف كل الاختلاف عن موقفنا في الشرق العربي، وإن تكن هنالك بيننا وبينهم ظروف مشتركة تجعل منا ومنهم أبناء عصر واحد. وهذا الاختلاف العميق فيما بيننا كثيرا ما يجعل قارئ أدبهم - أعني القارئ العربي - يحس وكأنما هو يقرأ عن شيء لا يمت له بصلة على الإطلاق، وأحسب أن من أعمق مواضع الاختلاف أن إنسان الغرب قد أصبح يحس هوة عميقة بين شعوره من ناحية ولا شعوره من ناحية أخرى، فما يراه بعقله الواعي ينكره عليه ما هو دفين في نفسه اللاواعية، فأحدث هذا التجاذب فيه تمزقا شديدا ظهرت آثاره في أدبه؛ في شعره، وفي شخصيات قصصه ومسرحياته، فثمة إحساس قوي بالخيبة وبالغربة؛ لأن الإنسان قد انفصل عن طبيعته وفقد التوازن بين مقوماته؛ فهو ذو شخصية منشقة إلى نصفين، ما يرضي هذا الجانب منه لا يرضي الجانب الآخر، فإلى أين يتجه الأديب ببصره؟ إنه في أغلب الحالات عندهم يتجه إلى الأعماق الدفينة التي تكمن وراء الأسطح الظاهرة في حياة عصره. وبعبارة أخرى، إنه يتجه بكل قوته وعبقريته نحو «اللاشعور» الخبيء ليخرجه إلى النور، وبمقدار ما يوفق إلى ذلك، يوفق أيضا في إبراز حقيقة العصر الذي يعيش فيه، وكذلك يوفق إلى إرجاع التوازن المفقود بين العقل الواعي والنفس اللاواعية، فتعود للإنسان وحدته التي تمزقت، لكنه لكي يفعل ذلك كله فلا بد أن يجعل من أدبه أدبا ذا جانب واحد، هو جانب الغوص في اللاشعور - تاركا مسائل الجانب العاقل من الإنسان - فيجيء أدبا انطوائيا يتحسس طريقه في الشعاب المعتمة من متاهة النفس، وهي الشعاب التي من خيوطها تنسج الشخصية آخر الأمر؛ فلا عجب أن قد أصبح الأدب - كما أسلفنا - أدبا للخاصة وحدهم، وهم الخاصة الذين يحيون بدورهم حياة انطوائية تشبه حياة الأديب، وأما بقية الناس من أوساط المثقفين ومن هم فوق الأوساط، فيرونه أدبا «صعب الفهم»، أو يرونه أدبا يكشف عن «مرض نفسي» عند أصحابه أكثر مما يكشف عن الحق الأبدي الخالد؛ فلئن كان هذا الأدب دالا على عبقرية مبدعه، فليس هو بالأدب الذي يسد حاجة القراء بصفة عامة؛ لأن هؤلاء القراء يرون الظروف السياسية والاجتماعية الراهنة تبتلع شخصياتهم الفردية ابتلاعا، فهم بحاجة إلى أدب يعوض لهم ما قد فقدوه في ميدان السياسة والاجتماع، وذلك لا يكون بأن تقدم إليهم أدبا كقطعة الحجر الصلد يحتاج إلى معالجة وصبر في تحليله ودراسته، بل يكون بأن تعطيهم أدبا شفافا يخاطب القلب مخاطبة مباشرة، فكيف يكون ذلك؟
إنه يكون بأدب «الجنس» عند فريق، وبأدب «الإيمان الديني» عند فريق آخر، ذلك كله حق بالنسبة لإنسان الغرب، أما نحن في الشرق العربي فلم يحدث لنا أن بعدت الشقة بين شعورنا ولا شعورنا؛ وبالتالي لا نحس بالتمزق النفسي بنفس المعنى الذي يحسه به إنسان الغرب، أفليس عجيبا - إذن - أن نجد كثيرين من أدبائنا ومن نقادنا يعالجون آثارنا الأدبية وحياتنا بصفة عامة كما لو كنا في الأزمة النفسية ذاتها، فيحدثوننا عن «اللاانتماء»، وعن «القلق»، والذي يتحدث عنه الوجوديون، وما إلى ذلك؟ لقد وجد الأديب الغربي نفسه مضطرا إلى الانطواء، لكن أديبنا تدعوه ظروف حياتنا أن ينبسط ولا ينطوي، ووجد الأديب الغربي نفسه مضطرا إلى إقامة سد بينه وبين عامة القراء، لكن هذه الجفوة لم تتوافر أسبابها هنا؛ ومعنى ذلك كله - عندي - أن من هو نموذج للعبقرية الأدبية عندهم - مثل «إليوت» و«جويس» - لا يجوز أن يكون هو نموذج العبقرية الأدبية عندنا؛ لأن حاجتنا غير حاجتهم، وأديبنا غير أديبهم.
عقيدتي أنه لو كان في تاريخ الأدب الغربي عصر أقرب شبها في ظروفه النفسية إلى عصرنا هذا في شرقنا العربي - وبالتالي فلا بد أن يكون أدبه أقرب إلى نفوسنا من أدب الغرب في القرن العشرين - هو أدب النهضة الأوروبية، الذي جاء في أعقاب عصور وسطى، وعلى عتبة عصر علمي جديد، فعندئذ أحس الإنسان في الغرب إحساس من فكت عنه الأغلال التي كانت تقيد خطاه، وعندئذ أيضا صادفته الآلة الجديدة - المطبعة - فراح يطبع ويطبع، وينشر وينشر، وصادفه عصر الكشف الجغرافي، فراح يجوب الأرض والبحر، يكشف المجهول، فملأه هذا كله نشوة كنشوة الصبيان فتحت لهم أبواب المدرسة ظهر الخميس، فأخذوا يعدون عدوا؛ لأن المشي البطيء لا يسعف؛ فالفرحة الداخلية تساير فرحة خارجية، والعقل الظاهر يماشي العقل الباطن، فلا شد ولا جذب ولا تمزق، والدفعة نحو الحياة الجديدة قوية، فلم يكن الأديب عندئذ انطوائيا، وكيف ينطوي على نفسه وقد كشفت له آفاق الأرض والسماء - نعم والسماء؛ لأنه لم يكن محض مصادفة أن يجوب الكاشفون أرجاء الأرض في نفس الوقت تقريبا الذي كان العلماء الفلكيون - «جاليليو» و«كبلر» و«نيوتن» - يجوبون السماء بمناظيرهم وبعملياتهم الرياضية - لا لم يكن الأديب عندئذ انطوائيا، كلا، ولم يكن مسرفا في انبساطه، كأنما أراد أن يقف موقفا متزنا بين داخله وخارجه، فجاء أدبه يخاطب النفس ويصور الخارج معا؛ ولذلك جاء أدبا للخاصة وللعامة على السواء. فإذا كان «هاملت» يرضي أذواق الخاصة بتأملاته، ف «فولستاف» يرضي العامة بمرحه ونكاته. وإذا كان «دون كيشوت» يشبه خاصة الحالمين، فمعه «سانكو بانزا» الذي يشبه العامة في نظرته العملية الساخرة.
كان الناس عندئذ في الغرب - كما هم الناس اليوم في شرقنا العربي - على أبواب عصر علمي يكشف لهم عن لغز الكون بدرجات، فلا يعود هو نفسه العالم المغلق الذي كان في العصور الوسطى، كلا، ولا هو العالم الذي أزيل عنه الستر ففقد سحره كما أوشكت أن تكون الحال مع أبناء الغرب اليوم. ويخيل إلي أننا في الشرق العربي في مرحلة كالتي كان فيها الغرب في القرن السابع عشر من هذه الناحية؛ فلا نحن في غفلة الماضي، ولا نحن قد بلغنا من التقدم العلمي ما يقتل الروح؛ وإذن فهذا عامل آخر يجعل الأدب الأوروبي في القرن السابع عشر أقرب إلى نفوسنا وأجدر باستلهامه من أدب الشباب الساخط في عصرنا، ومن أدب الوجودية القلقة. بعبارة أخرى، فأدب العقل الواعي أقرب إلى حاجتنا النفسية من أدب العقل الباطن، والانبساط أشبع لرغباتنا من الانطواء، والأمل المشرق أنسب لموقفنا من اليأس والقنوط. كانت «الملهاة» في أدب الغرب عندئذ أعلى شأنا من «المأساة»، وهكذا يجب أن تكون عندنا اليوم؛ وكانت القصة الواقعية الخارجية أقرب إلى الأذواق من القصة النفسية التحليلية الباطنية، وهكذا يجب أن تكون عندنا اليوم؛ فنحن أحوج إلى الحياة الإيجابية منا إلى الأنات والعبرات.
अज्ञात पृष्ठ