सपनों की दुनिया में
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
शैलियों
قلت: «دعني وشأني وسر في سبيلك.»
فقال مبتسما: «ما سبيلي سوى سبيلك؛ فأنا سائر حيث تسير، ورابض حيث تربض.» قلت: «جئت أطلب الوحدة، فخلني ووحدتي.» فقال: «أنا الوحدة نفسي. فلماذا تخافني؟» قلت: «لست بخائف منك.» فقال: «إن لم تكن خائفا فلماذا ترتجف مثل قصبة أمام الريح؟» قلت: «إن الهواء يتلاعب بأثوابي فترتجف، أما أنا فلا أرتجف.»
فضحك مقهقها بصوت يضارع ضجيج العاصفة، ثم قال: «أنت جبان، تخافني وتخاف أن تخافني، فخوفك مزدوج، ولكنك تحاول إخفاءه عني وراء خداع أوهى من خيوط العنكبوت، فضحكني وتقنطني.» ثم جلس على الصخر، فجلست قسر إرادتي محدقا بملامحه المهيبة، وبعد هنيهة خلتها ألف عام نظر إلي مستهزئا وسألني قائلا: «ما اسمك؟» قلت: «اسمي عبد الله». فقال: «ما أكبر عبيد لله وما أعظم متاعب الله بعبيده! فهلا دعوت نفسك: سيد الشياطين، وأضفت بذلك إلى مصائب الشياطين مصيبة جديدة؟» قلت: «اسمي عبد الله، وهو اسم عزيز أعطاني إياه والدي يوم ولادتي، فلن أبدله باسم آخر.» فقال: «إن بلية الأبناء في هبات الآباء، ومن لا يحرم نفسه من عطايا آبائه وأجداده، يظل عبد الأموات حتى يصير من الأموات.»
فحنيت رأسي مفكرا بكلماته، مسترجعا إلى حافظتي رسوم أحلام شبيهة بحقيقته. ثم عاد وسألني قائلا: «وما صنعتك؟» قلت: «أنظم الشعر وأنثره، ولي في الحياة آراء أطرحها على الناس.» فقال: «هذه مهنة عتيقة مهجورة ولا تنفع الناس ولا تضرهم.» قلت: «وماذا عسى أن أفعل بأيامي وليالي لأنفع الناس؟» فقال: «اتخذ حفر القبور صناعة، تريح الأحياء من جثث الأموات المكدوسة حول منازلهم ومحاكمهم، ومعابدهم.» قلت: «لم أر قط جثث الأموات مكردسة حول المنازل.» فقال: «أنت تنظر بعين الوهم، فترى الناس يرتعشون أمام عاصفة الحياة؛ فتظنهم أحياء وهم أموات منذ الولادة، ولكنهم لم يجدوا من يدفنهم، فظلوا منطرحين فوق الثرى ورائحة النتن تنبعث منهم.»
قلت وقد ذهب عني بعض الوجل: «وكيف أميز بين الحي والميت، وكلاهما يرتعش أمام العاصفة؟» فقال: «إن الميت يرتعش أمام العاصفة، أما الحي فيسير معها راكضا، ولا يقف إلا بوقوفها.»
واتكأ إذ ذاك على ساعده؛ فبانت عضلاته المحبوكة كأصول سنديانة مملوءة بالعزم والحياة، ثم سألني قائلا: «أمتزوج أنت؟» قلت: «نعم، وزوجتي امرأة حسناء، وأنا كلف بها.» فقال: «ما أكثر ذنوبك ومساويك! إنما الزواج عبودية الإنسان لقوة الاستمرار. فإن شئت أن تتحرر طلق امرأتك وعش خاليا.» قلت: «لي ثلاثة أولاد، كبيرهم يلعب بالأكر، وصغيرهم يلوك الكلام ولا يلفظه. فماذا أفعل بهم؟» قال: «علمهم حفر القبور وأعط كل واحد رفشا، ثم دعهم وشأنهم.» قلت: «ليس في طاقة على الوحدة والانفراد. قد تعودت لذة العيش بين زوجتي وصغاري، فإن تركتهم تركتني السعادة.» فقال: «ما حياة المرء بين زوجته وأولاده سوى شقاء أسود مستتر وراء طلاء أبيض، ولكن إن كان لا بد من الزواج؛ فاقترن بصبية من بنات الجن.» قلت مستغربا: «ليس للجن حقيقة، فلماذا تخدعني؟» فقال: «ما أغباك فتى! فليس لغير الجن حقيقة، ومن لم يكن من الجن كان في عالم الريب والالتباس.» فقلت: «وهل لصبايا الجن ظرف وجمال؟» فقال: «لهن ظرف لا يزول، وجمال لا يذبل.» قلت: «أرني جنية؛ فأقنع.» فقال: «لو كان بإمكانك أن ترى الجنية، وتلمسها لما أشرت عليك بزواجها.» قلت: «وما النفع بزوجة لا ترى ولا تمس؟»
فقال: «هو نفع بطيء، ينتج عنه انقراض المخاليق والأموات الذين يختلجون أمام العاصفة ولا يصيرون معها.» وحول وجهه عني دقيقة، ثم عاد وسألني قائلا: «وما دينك؟» قلت: «أؤمن بالله، وأكرم أنبياءه، وأحب الفضيلة، ولي رجاء بالآخرة.»
فقال: «هذه الألفاظ رتبتها الأجيال الغابرة ثم وضعها الاقتباس بين شفتيك. أما الحقيقة المجردة فهي أنك لا تؤمن بغير نفسك، ولا تكرم سواها، ولا تهوى غير أميالها، ولا رجاء لك إلا بخلودها. منذ البدء والإنسان يعبد نفسه، ولكنه يلقبها بأسماء مختلفة باختلاف أمياله وأمانيه، فتارة يدعوها البعل، وطورا المشترى، وأخرى الله.»
ثم ضحك فانفجرت ملامحه تحت نقاب من الهزء والسخرية، وزاد قائلا: «ولكن ما أغرب الذين يعبدون نفوسهم، ونفوسهم جيف منتنة!»
ومرت دقيقة وأنا أفكر بأقواله؛ فأجد فيها معاني أغرب من الحياة، وأهول من الموت، وأعمق من الحقيقة. حتى إذا ما تاهت فكرتي بين مظاهره ومزاياه، وهاجت أميالي لاستعلان أسراره وخفاياه، صرخت قائلا: «إن كان لك رب فبربك قل لي: من أنت؟» قال: «أنا رب نفسي.» فقلت: «وما اسمك؟» قال: «الإله المجنون.» فقلت: «وأين ولدت؟» قال: «في كل مكان.» فقلت: «وأي متى ولدت؟» قال: «في كل زمان.»
अज्ञात पृष्ठ