सपनों की दुनिया में
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
शैलियों
هكذا صرف يوحنا شبيبته بين الحقل المملوء بالمحاسن والعجائب وكتاب يسوع المفعم بالنور والروح. وكان سكوتا كثير التأملات، يصغي لأحاديث والديه ولا يجيب بكلمة، ويلتقي بأترابه الفتيان ويجالسهم صامتا ناظرا إلى البعيد حيث يلتقي الشفق بازرقاق السماء، وإذا ما ذهب إلى الكنيسة عاد مكتئبا لأن التعاليم التي يسمعها من على المنابر والمذابح هي غير التي يقرؤها في الإنجيل، وحياة المؤمنين مع رؤسائهم هي غير الحياة الجميلة التي تكلم عنها يسوع الناصري.
جاء الربيع واضمحلت الثلوج في الحقول والمروج، وأصبحت بقاياها في أعالي الجبال تذوب وتسير جداول جداول في منعطفات الأودية، وتجتمع أنهرا غزيرة تتكلم بهديرها عن يقظة الطبيعة، فأزهرت أشجار اللوز والتفاح، وأورقت قضبان الحور والصفصاف، وأنبتت الروابي أعشابها وأزهارها، فتعب يوحنا من الحياة بجانب المواقد، وعرف بأن عجوله قد ملت ضيق المرابض واشتاقت إلى المراعي الخضراء؛ لأن مخازن التبن قد شحت وزنابل الشعير قد نفدت، فجاء وحلها من معالفها وسار أمامها إلى البرية، ساترا بعباءته كتاب العهد الجديد كيلا يراه أحد، حتى بلغ المرجة المنبسطة على كتف الوادي بقرب حقول الدير القائم كالبرج الهائل بين تلك الهضاب،
1
فتفرقت عجوله مرتعية الأعشاب، وجلس مستندا إلى صخرة يتأمل تارة بجمال الوادي، وطورا بسطور كتابه المتكلمة عن ملكوت السموات.
كان ذلك النهار من أواخر أيام الصوم، وسكان تلك القرى المنقطعون عن اللحوم أصبحوا يترقبون بفضلات الصبر مجيء عيد الفصح.
أما يوحنا فمثل جميع المزارعين الفقراء لم يكن يفرق بين أيام الصيام وغيرها، فالعمر كله كان صوما طويلا عنده، وقوته لم يتجاوز قط الخبز المعجون بعرق الجبين والثمار المبتاعة بدم القلب، فالانقطاع عن اللحوم والمآكل الشهية كان طبيعيا، ومشتهيات الصوم لم تكن في جسده بل في عواطفه؛ لأنها تعيد إلى نفسه ذكرى مأساة «ابن البشر» ونهاية حياته على الأرض.
كانت العصافير ترفرف متناجية حول يوحنا، وأسراب الحمام تتطاير مسرعة، والزهور تتمايل مع النسيم كأنها تتحمم بأشعة الشمس، وهو يقرأ في كتابه بتمعن، ثم يرفع رأسه ويرى قبب الكنائس في المدن والقرى المنثورة على جانبي الوادي ويسمع طنين أجراسها، فيغمض عينيه وتسبح نفسه فوق أشلاء الأجيال إلى أورشليم القديمة، متبعة أقدام يسوع في الشوارع سائلة العابرين عنه، فيجيبونها قائلين: هنا شفى العميان وأقام المقعدين، وهناك ضفروا له إكليلا من الشوك ووضعوه على رأسه. في هذا الرواق وقف يكلم الجموع بالأمثال، وفي ذلك القصر كتفوه على العمود وبصقوا على وجهه وجلدوه. في هذا الشارع غفر للزانية خطاياها، وفي ذاك وقع على الأرض تحت أثقال صليبه.
ومرت الساعة ويوحنا يتألم مع الإله الإنسان بالجسد ويتجمد معه بالروح، حتى إذا ما انتصف النهار قام من مكانه ونظر حوله فلم ير عجوله، فمشى متلفتا إلى كل ناحية مستغربا اختفاءها في تلك المروج السهلة، ولما بلغ الطريق المنحنية بين الحقول انحناء خطوط الكف رأى عن بعد رجلا بملابس سوداء واقفا بين البساتين، فأسرع نحوه، ولما اقترب منه وعرف أنه أحد رهبان الدير حياه بإحناء رأسه ثم سأله قائلا: «هل رأيت عجولا سائرة بين هذه البساتين يا أبتاه؟» فنظر إليه الراهب متكلفا إخفاء حنقه وأجاب بخبث: «نعم رأيتها، فهي هناك، تعال وانظرها.» فسار يوحنا وراء الراهب حتى بلغا الدير، فإذا بالعجول ضمن حظيرة واسعة موثقة بالحبال يخفرها أحد الرهبان وفي يده نبوت يجلدها به كيفما تحركت، وإذ هم يوحنا ليقودها أمسك الراهب بعباءته والتفت نحو رواق الدير وصرخ بأعلى صوته: «هو ذا الراعي المجرم قد قبضت عليه.» فهرول القسس والرهبان من كل ناحية يتقدمهم الرئيس، وهو رجل يمتاز عن رفاقه بنحافة أثوابه وانقباض سحنته، وأحاطوا بيوحنا كالجنود المتسابقة إلى الغنيمة، فنظر يوحنا إلى الرئيس وقال بهدوء: «ماذا فعلت لأكون مجرما؟ ولماذا قبضتم علي؟» فأجابه الرئيس وقد بانت القساوة على وجهه الغضوب، وبصوت خشن أشبه بصرير المناشير قال: «قد ارتعت عجولك زرع الدير وقضمت قضبان كرومه، فقبضنا عليك لأن الراعي هو المسئول عما تخربه مواشيه.» فقال يوحنا مستعطفا: «هي بهائم لا عقل لها يا أبتاه، وأنا فقير لا أملك غير قوى ساعدي وهذه العجول، فاتركني أقودها وأسير، واعدا إياك بألا أجيء إلى هذه المروج مرة أخرى.» فقال الرئيس وقد تقدم قليلا إلى الأمام ورفع يده نحو السماء: «إن الله قد وضعنا هنا، ووكل إلينا حماية أراضي مختاره اليشاع العظيم، فنحن نحافظ عليها ليلا ونهارا بكل قوانا لأنها مقدسة، وهي كالنار تحرق كل من يقترب منها، فإذا امتنعت عن محاسبة الدير انقلبت الأعشاب في أجواف عجولك سموما آكلة، ولكن ليس من سبيل إلى الامتناع لأننا نبقي بهائمك في حظيرتنا حتى تفي آخر فلس عليك.»
وهم الرئيس بالذهاب فأوقفه يوحنا وقال متذللا متوسلا: «أستحلفك يا سيدي بهذه الأيام المقدسة التي تألم فيها يسوع وبكت لأحزانها مريم أن تتركني أذهب بعجولي. لا تكن قاسي القلب علي، فأنا فقير مسكين والدير غني عظيم، فهو يسامح تهاملي ويرحم شيخوخة والدي.» فالتفت إليه الرئيس وقال بهزء: «لا يسامحك الدير بمثقال ذرة أيها الجاهل فقيرا كنت أم غنيا، فلا تستحلفني بالأشياء المقدسة لأننا أعرف منك بأسرارها وخفاياها، وإن شئت أن تقود عجولك من هذه المرابض فافتدها بثلاثة دنانير لقاء ما التهمت من الزرع.» فقال يوحنا بصوت مختنق: «إنني لا أملك بارة واحدة يا أبتاه، فأشفق علي وارحم فقري.» فأجاب الرئيس بعد أن مشط لحيته الكثيفة بأصابعه: «اذهب وبع قسما من حقلك وعد بثلاثة دنانير، فخير لك أن تدخل السماء بلا حقل من أن تكتسب غضب اليشاع العظيم باحتجاجك أمام مذبحه، وتهبط في الآخرة إلى الجحيم حيث النار المؤبدة.»
فسكت يوحنا دقيقة وقد أبرقت عيناه وانبسط محياه وتبدلت لوائح الاسترحام بملامح القوة والإرادة، فقال بصوت تمتزج نغمة المعرفة بعزم الشبيبة: «هل يبيع الفقير حقله منبت خبزه ومورد حياته ليضيف ثمنه إلى خزائن الدير المفعمة بالفضة والذهب؟ أمن العدل أن يزداد الفقير فقرا ويموت المسكين جوعا كيما يغفر اليشاع العظيم ذنوب بهائم جائعة؟» فقال الرئيس هازا رأسه استكبارا: «هكذا يقول يسوع المسيح: «من له يعطى ويزاد، ومن ليس له يؤخذ منه.»
अज्ञात पृष्ठ