قلت: خير بعد شر، فلاح بعد كفاح، فلا أخفي عليك يا صاحبي أن أمر ابن الرومي في سمعته تلك أمر عجيب مفرط في العجب، وأنني لو صدقت خرافة من الخرافات لصدقت خرافة الشؤم والتشاؤم، وصدقتها في ابن الرومي هذا قبل غيره، فما حدث منه قد شهدته بنفسي وخبرته في صحبي، ولم أعتمد فيه على رواية الأقدمين ولا على مبالغات المتندرين؛ لأنني تعاقدت على طبع كتابي عنه مع مدير المطبعة، فمات هو وسجنت أنا قبل الفراغ من ملازم الكتاب الأول، وكان وزير المعارف «أحمد حشمت» قد أوصى بطبع ديوانه، وأقام على تصحيحه مفتش اللغة العربية في الوزارة، فعزل الوزير والمفتش وماتا قبل الفراغ من جزئه الثاني، وكتب المازني فصولا عنه فكسرت رجله، ونشر صاحب الثمرات قصائد من ديوانه فكسرت رجله، وهم صاحب البيان بنشر مطولاته والعناية بأخباره فتعطلت مجلة البيان، فلو كانت هذه المصادفات أسبابا يؤخذ بها وترتبط بنتائجها لكان الشؤم المزعوم حقيقة من الحقائق العلمية التي لا شك فيها، ولكنها مصادفات سيئة تقترن بها مصادفات حسنة، ولا يجوز لنا أن نركن إلى هذه ولا إلى تلك على انفراد، فقد أنجزت كتابي عن ابن الرومي، فكانت السنة التي ظهر فيها من أسعد السنوات في حياتي الخاصة، وأبرزها في حياتي العامة، وسلك الكتاب سبيله بين مراجع الأدب المعدودة في هذا الجيل، فإن كان الشؤم على صولته التي يتخيلونها فقد تحديناه، ونجحنا في تحديه بحمد الله.
ولم يكن في الحجرة شيء سبقته إلى سكن هذا البيت منذ سكنته قبل زهاء عشرين سنة، فكل ما فيها قد دخل البيت يوم دخلته وبقي هناك كما بقيت، إلا بعض الصور، والمذياع!
ففيها صورة للقصر المعروف باسم «أنس الوجود» من صنع الفنان التركي القدير الأستاذ هدايت، تلمح من نظرة واحدة إليها غرابة الجو المصري والألوان المصرية الوضاءة على آثارنا الخالدة، كما تبدو في عيني الفنان الغريب عن الديار.
وفيها صورة لي من صنع الأستاذ «أحمد صبري»، وهو من أساطين فن التصوير في هذا البلد، وله ريشة ثابتة وألوان صحيحة وطريقة مأثورة عن عباقرة المدرسين الأقدمين، لا تستهويه البدع المستحدثة ولا يروقه من ملامح الوجوه إلا ما ينم على جد واهتمام.
وفيها صورة لشاطئ الزمالك من صنع المصور الموهوب الأستاذ شعبان زكي، وهو فنان ينظر ويحلم ويسبغ من أحلامه كثيرا على المناظر الطبيعية، أو الحوادث التاريخية التي يسجلها، ومن آثاره التي تتجلى فيها أحلام التصوير والأدب صورة امرئ القيس والعذارى، وهو مرابط لهن على حافة الغدير.
وفيها صورة لترعة المحمودية من صنع الفنان المطلع الأستاذ صلاح الدين طاهر، وهو لاشتغاله بتصوير الوجوه والأشخاص واطلاعه على الدراسات النفسية قد سرت إلى مناظره الطبيعية عدوى عنايته بالوجوه والنفوس، فلا تخلو مناظره من ملامح «سيكولوجية»، على غير الأحياء.
وفيها صورة «أبي قير» لفقيد الفن الأستاذ لبيب تادرس، وهو فنان مجتهد عوجل في شبابه قبل أوانه، وكان له اقتداء بالمدرسة الإحساسية في التلوين وتمثيل الأشياء والأشخاص من بعيد.
وهناك تمثال نصفي أهداه إلي بعض الهواة ممن يشتغلون بغير النحت، ولا يظهرون آثارهم الفنية.
أما المذياع فلم يكن ذاع يوم سكنت هذه الدار، ولم أكن أرى منه في مصر الجديدة إلا أدوات عاجلة يركبها بعض الكهربائيين على أيديهم، وتسمع أو لا تسمع كالمركب الشراعي الذي يسير أو لا يسير «حسب التسهيل».
قال صاحبي: إن نقل الصوت من المكان البعيد معجزة كافية، فكيف إذا أضيفت إلى هذه المعجزة معجزة النقل من زمان بعيد؟ إنهم يزعمون ذلك في الإمكان، ويقولون: إن استخلاص أصوات الأقدمين كما نطقوا بها في حياتهم ليس بالمستحيل؛ لأنها محفوظة في بعض طبقات الجو البعيد، لا يؤثر عليها الاختلاط إلا كما يؤثر الاختلاط على أصوات المحدثين.
अज्ञात पृष्ठ