أتعلم يا صاحبي ماذا أحب وماذا أبغض من مذاهب السخرية، بل من مذاهب السخط والتشاؤم؟
إن النظرة إلى المرأة هنا هي مقياس النظرة إلى الحياة، فإنك لا تسخط عليها إلا لأنك تكبرها، ولا تترك السخط عليها والسخرية منها إلا لأنها هينة عليك حقيرة في عينيك.
الزوجة تغضبك وتقيمك وتقعدك، ولكن البغي المستباحة لا تثير منك غضبة ولا تكلفك حسابا ولا عناية، فإذا اقترن السخط بالجد والاهتمام، فالحياة شريفة مرعية تلقاك منها المغضبات بغير ما تتوقعه وما تتمناه، وإذا بطل السخط وبطل معه السخر اللاذع، فالحياة جثة مستباحة بلا عرض ولا كرامة، وهذا الذي أوثر عليه سخط الساخطين وسخر الساخرين.
وإني لأسمع من هذه النافذة بين حين وحين صوت امرأة لا تني تنذر وليدها بالخيبة وسوء المآل؛ أأنت تفلح في شيء قط؟ والله ما أنت بمفلح ولا بمقلع عما أنت فيه! خيبني الله إن لم أرك خائبا هكذا بين أبناء الأمهات.
وهذا سخط كسخط فريق من الفلاسفة المتشائمين على الدنيا ومن فيها، ولكنه سخط من يريد الخير ومن يسوءه صدق ما يقول، ومن هو أول الفرحين والمستبشرين لو جرى الأمر على غير النبوءة التي يقسم عليها جاهدا، ويخيل إليك أنه قد جزم بها كل الجزم، وفرغ منها غاية الفراغ.
هذا سخط من يعنيه أن يسخط ويعنيه أن يرضى، هذا سخط من يسخط على نفسه وهو ساخط؛ أو من يسخط لأنه يحاول أن يرضى فما استطاع.
أما أولئك الفلاسفة الراضون بالدنيا؛ لأنهم يلتذون عيوب الإنسان ويبحثون عنها بحث المحبور بالنقص المحزون بالكمال؛ فبينهم وبين أولئك الساخطين بون بعيد، بين هؤلاء وهؤلاء ما بين الأم التي تنعي خيبة وليدها والعدو الذي ينعي خيبة عدوه، فتلك تنعي وهي كارهة آسفة، وهذا ينعي وهو راض قرير، وتلك تحفز إلى العمل والصلاح، وهذا يصد عن العمل والصلاح.
أولئك المتشائمون أصدقاء الحياة والإنسان، وهؤلاء المتشائمون أعداء الحياة والإنسان.
وليست العبرة في مذاهب الحكمة بالأسماء والعناوين، ولكنما العبرة حق العبرة بالبواعث والنيات، وربما نظرت إلى البواعث والنيات فرأيت بعض المتشائمين أقرب إلى حب الحياة والإشادة بفضائل الأحياء من بعض المازحين والضاحكين.
قال صاحبي: إن كثيرا من الناس ليفهمون قولنا حين نقول لهم: إن كارليل فيلسوف متشائم، ولكن كم منهم يفهموننا حين نقول: إن بيتهوفن موسيقار متشائم أو مناضل؟ وكم من الناس في الشرق خاصة يرى في صناعة الألحان متسعا لآراء المتفائلين وآراء المتشائمين وآراء المناضلين؟! إنما يحسبون ذلك وقفا على التعبير بالكلام، دون التعبير بالألحان، فإن وصفوا لحنا بالتشاؤم، فأول ما يسبق إلى أخلادهم أنه لحن جنازة أو لحن شجن وأنين ... وإنما يسوغ التعبير الموسيقي في معاني المذاهب الفلسفية عند طبائع الغربيين، ولا يسوغ عند طبائعنا نحن الشرقيين. أوليس هذا هو الفارق بين موسيقى الغرب وموسيقى الشرق التي ورثناها عن الآباء منذ عهد بعيد؟
अज्ञात पृष्ठ