قال صاحبي: إنه لميزان عادل، ولكنه يزن بين النازية والشيوعية من جهة وبين غيرهما من المذاهب الاجتماعية من جهة أخرى، فكيف يكون وزنه بين النازية والشيوعية يا ترى؟
قلت يا صاحبي: كلاهما شر وفي الشر خيار، وإنما المقابلة بينهما تعلو بهذه مرة وتهبط بتلك مرة، كما يكون العلو والهبوط في المقابلة بين الحسد والغرور.
فالنازية في لبابها قائمة على خليقة الغرور؛ لأنها لن تقوم إن لم يقم معها غرور الزعيم بتفوقه على سائر الناس، وغرور العنصر بتفوقه على سائر العناصر، وغرور الأتباع بما يتاح لهم من مظاهر الزهو والخيلاء.
والشيوعية في لبابها قائمة على خليقة الحسد؛ لأنك لا ترى شيوعيا إلا رأيته حاسدا للممتازين من خلق الله كيفما كان سبيل الامتياز، وليس منهم من يشعر بالعطف على الضعيف أو الفقير، ولكنهم جميعا يحقدون على القوي والغني وعلى كل صاحب فضل يشيد به الآخرون، وليست التفرقة عندهم بين الناس تفرقة بين من يحمد أو يذم، ولا تفرقة بين من يحب أو يكره، ولا تفرقة بين من يكرم أو يلؤم؛ وإنما هي على الجملة تفرقة بين من يحسد أو لا يحسد كائنا ما كان مثار الحسد عليه، وإنك لتستطيع أن تعلم مع من الخصمين يكون الشيوعي كلما علمت من منهما الراجح، ومن منهما المرجوح؛ فهم في صف المرأة إذا نازعت الرجل، وفي صف الولد إذا نازع الوالد، وفي صف الجاهل إذا نازع العالم، وفي صف الخامل إذا نازع المشهور، وفي صف الدهماء إذا نازعوا أبطال التاريخ، ولن ترى شيوعيا يسلم من الحسد بحال من الأحوال، وبهذا وحده تفسر كل لغز يعرض لك من ألغازهم حين ترى فيهم من تظنه غريبا عنهم، وفيهم أصحاب الأموال والأحساب.
قال: والله لقد وددت حقا أن أعرف لم يكون صاحبنا فلان من الشيوعيين، وهو سليل بيت قديم وصاحب مال موفور؟
قلت: تعرف ذلك حين تعرف أنه يحسد أمثاله وينقم على الدنيا؛ لأنه لا يحسب منهم حين يحسب ذوو الكلمة أو ذوو الرأي أو ذوو المنصب والجاه، وعلى قدر طمعه في ذلك، وتوافر وسائله عنده يكون حقده وحسده، واشتياقه إلى التقويض والتخريب.
وقس على ذلك إخوانه ممن تستغرب نخوتهم الشيوعية، وهم موسرون أو مرابون يمتصون دماء الضعفاء قبل الأقوياء: أرأيت إلى المرابي فلان وثروته كلها مجموعة ممن يقترض الجنيه والجنيهين، ويؤدي الفائدة ضعفين أو فوق الضعفين؟
استمع إليه - أتسمعه يوما يذكر إنسانا من الأقدمين أو المحدثين بحمد أو ثناء، فما له لا يكون شيوعيا والشيوعية تمكنه من شتم «أكبر عدد مستطاع» من خلق الله؟ يشتم الرسل؛ لأن الشيوعية تنكر الأديان؛ ويشتم الأبطال لأن الشيوعية تنكر الأوطان، ويشتم دعاة الحرية؛ لأنهم «برجوازيون» يخدمون رءوس الأموال من وراء الستار، ويشتم حتى «غاندي» المسكين؛ لأنه يخدر أعصاب المساكين، ويعلمهم ترك العدوان ولا قيام للشيوعية بغير الثورة وسفك الدماء. ثروة من الشتائم يستمتع بها لسانه في ظل المذهب «المظلوم»، وثروة من الأحقاد تخيل إليه أنه يمتص دماء الضعفاء؛ لأنهم لا يستحقون الرحمة، وليس لما فيه من لؤم وكنود.
قال صاحبي: أوكلهم ذلك الرجل؟ أوليس فيهم من رجل رشيد!
قلت: إلا من عصم ربك، وهم القليل، أو هم الاستثناء في هذه القاعدة، والأغلب أن يكون هؤلاء من الشبان الذين تنبض قلوبهم بحماسة الفتوة وحب النخوة، ويسمعون وعود الماركسيين فيصدقونها ولا يدركون عقباها، أو يفطنون إلى محظوراتها، فمن لم يكن من هؤلاء فهم السيئون المتعجلون؛ لأنهم يتعجلون الصعود ويعجزون عنه فيودون لو يهبط الصاعدون، ويحبون إلغاء الفروق بين الناس ليصبح الأعلياء كالأدنياء، لا ليصبح الأدنياء كالأعلياء.
अज्ञात पृष्ठ