फ़ी अव्क़ात फिराग़
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
शैलियों
يوم يقيم النوابغ الأدب القومي، بعد أن ينشر المجاهدون العلم والثقافة القومية، تنتقل المعركة من ميدان القديم والحديث إلى التنافس حول الكمال والقرب منه والابتعاد عنه، ويومئذ يتشعب الكمال إلى ما يريد النوابغ من صور، ويومئذ يسلس قياد اللغة ويسرع تيارها الفياض إلى حيث يحتاج إليه الذهن. ثم يكون التعاون الصادق بين ثمرات الفكر. وتكون هذه الثمرات لذاتها هي الغاية أن أصبحت اللغة منهلا عذبا كثير الزحام. ويومئذ ترى هؤلاء المقتتلين من «الأقدمين» و«المحدثين» قد انصرفوا عن نضالهم الحاضر إلى ما هو خير وأبقى، ونرى اللغة اتصل ماضيها بحاضرها دائمة الأهبة؛ لتمثل ما تخلقه الحضارة من كل حديث.
لكن انصراف المقتتلين اليوم لن يحسم المعركة. وكيف تحسم في الحياة معركة والحياة تمور في نضالها الدائم الاتجاه نحو ما ترجوه الإنسانية من كمال. إنما يكون صلح الطائفتين المتنازعتين اليوم مثارا لقيام طوائف جديدة تقف في وجههما جميعا. ألم تر في نضال الفن كيف قام الآخذون عن الفلمنك، فأنشأوا اليوم شتى المذاهب، ووقفوا ينصرونها في وجه المدرسة اللاتينية العريقة الأصل والحسب؟ أولم تر إلى من قد يسميهم الأستاذ عزمي المكعبين
Les Cubistes . إذن فسيقوم عند بلوغها من صفو الصقال غايته أولئك «المكعبون» ومن إليهم من الثائرين. وسيكون أثر هؤلاء في اللغة أثر السموم تدخل إلى الجسم القوي فتزيده قوة وتؤتيه من المناعة ما يقيه ويحفظه. •••
لا نطلب اليوم إذن إلى «الأقدمين» و«المحدثين» أن يكفوا عن النضال ما دام نضالهم خطوة في سبيل الكمال. إنما الذي نرجوه ونطلبه أن يتضامن المئات والألوف من أهل اللغة العربية؛ لتتمثل لغتهم حضارة الإنسانية وليحتمل كاهلها كل ثمرات الذهن الإنساني من علم وفن وأدب. فإذا بلغوا من ذلك أن كان لأممهم حظ ونصيب من الثقافة القومية، فقد آذنت الساعة لقيام النوابغ الذين ينفثون في الشرق العربي روح حياة وقوة، ويخلعون على اللغة ثوب البهاء الذي يجدر بها أن تكسوه في هذه المدنية الحاضرة؛ لتكون به جديرة بأبناء هذا الشرق مهد أسمى الحضارات الإنسانية وأكبرها مجدا وعظمة.
العرب والحضارة الإسلامية
سبعون مليونا أو يزيدون يتكلمون اللغة العربية في هذا العصر الحاضر. ويقيمون في دول متجاورة تمتد حول الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط وتحيط بالبحر الأحمر، وتمتد داخل آسيا إلى العراق، وتتسلل بعده إلى بعض طوائف في العجم وأفغانستان وتركستان والهند. وهذه الدول المتجاورة يدين الأكثرون من أهلها بالإسلام. وقد خضعت كلها منذ أكثر من ألف سنة لمصائر متشابهة فسرت بينها مع وحدة اللغة والعقيدة والحظ وحدة في الفكرة وفي الحضارة، جعلت منها كتلة تتأثر بمؤثرات متشابهة وتنظر إلى المستقبل ولكل منها فيه ما لسائرها من رجاء.
هذه الوحدة في اللغة والعقيدة والمصائر يرجع تاريخها في هذه الأمم جميعا إلى تاريخ دخول الإسلام إليها مع العرب الفاتحين. أما قبل ذلك فكان لكل أمة منها لغتها وعقيدتها، وكانت أمم أفريقية تكاد تنفصل عن أمم آسيا خلا سوريا وفلسطين وما يتصل بهما، فكانت - في أكثر حقب التاريخ - وشيجة الاتصال بمصر وإن استقلت بلغتها الآرامية عن الهيروغليفية وغير الهيروغليفية من اللغات التي استقرت على ضفاف النيل. ولقد لعبت هذه الدول التي اتحدت لغة وعقيدة ومصائر بعد الإسلام دورا في تاريخ العالم من أكبر الأدوار، لا يزال له أثره بارزا. وقد أقرت هذه الدول في العالم حضارة لا يزال أثرها ولن يزول.
كان لكل أمة من هذه الأمم قبل الإسلام لغتها وعقيدتها، وكان مصير بعضها يتعلق تارة بدولة كبيرة أخرى كدول الفراعنة أو دولة الروم أو دولة الفرس، ويتحكم تارة في مصائر هذا الغير من طريق الغزو أو من طريق الدين، كما كان الأمر بعد ظهور اليهودية والمسيحية. أما العرب المقيمون في شبه الجزيرة والذين نشروا الإسلام في أقطار الأرض بعدما نزل وحيه على رجل منهم، فقد كانوا قبل الإسلام - كما هم اليوم - قبائل وعشائر تعيش في بلاد كانت - كما لا تزال - قاحلة لا يتجه نظر أحد للاستيلاء عليها إن لم يكن من هذا الاستيلاء، أية فائدة. ولذلك لم يفتحها اليونان والرومان كما فتحوا سائر الممالك المجاورة لها. وكانت تعتمد في قوامها الاقتصادي على التجارة أكثر من اعتمادها على الثمرات القليلة الضئيلة التي وهبها القدر إياها. وكانت بلادهم، بموقعها بين آسيا وأفريقية، بجدبها واضطرار أهلها للسعي في مناكب الأرض وراء الرزق، طريق التجارة بين الأمم المحيطة بها. وكان البر يومئذ وسيلة صالحة للنقل؛ لأن البحر كان لما يذلل متنه، ولما يخضع لحكم الإنسان عبابه. لكن العرب لم يكونوا لذلك تجارا، بل كانوا حماة للتجارة التي تمر بأرضهم من غزو القبائل إياها وعدوانهم عليها، كما كانوا أصحاب رواحل تنقل المتاجر من مصدرها إلى موردها. وهذه الحياة التي تقضى في الحماية من غزو المعتدي وفي نقل التجارة من بلد إلى بلد تدفع إلى النفس أسمى معاني البطولة والإقدام والاعتماد على النفس والاعتداد بالذات. لكنها كذلك حياة قاسية قليل ما تدره من الربح، كثير ما تستغرقه من وقت من يعانيها. وهي بعد حياة تجوال قل أن يستقر صاحبها إلى ذويه، وقل أن تسمح بقيام المدن وتكون الجماعات المتشابكة المصالح القائمة حياتها العامة على التضامن والتنافس جميعا. وما تزال تلك هي الحال الاقتصادية في جزيرة العرب إلى يومنا الحاضر. فالمدن فيها قليلة، والموجود منها قليل عدد سكانه. ولقد حرمت ما كان لها من قبل من مزية مرور التجارة بها بعدما أصبح البحر أكثر من البر أمنا، لكنها استعاضت عن ذلك بموسم الحج يدر عليها من فضل الله ما يقيم أهلها طوال عامهم.
مثل هذه الحياة الاقتصادية التي تقضي على أهل شبه الجزيرة بالعزلة والتجوال، وتحتم عليهم مواصلة العمل لكسب الرزق، ولا تيسر إنشاء المدن الكبيرة، ليس في طبيعتها أن تقر حضارة ثابتة القواعد باقية الأثر؛ ذلك بأن الحضارة ثمرة من ثمرات الاجتماع في الحضر، وهي لا تتفق وحياة البادية في كيانها على نحو ما هو ظاهر من لفظ الحضارة نفسه. ثم إن الحضارة فيض من عمل الإنسانية عن حاجاتها المادية والمعنوية والأدبية يزيد من هذه الحاجات، ثم يحفز الإنسانية في نفس الوقت إلى سعي جديد يكون من أثره فيض جديد. وهذا الفيض المتتابع هو الذي نقل الإنسانية من حياتها الأولى إلى تنعم به اليوم من ترف ورفاهية، وهو الذي سينقلها في حدود النظام والتقدم إلى أبعد مدى ترتجيه نحو الكمال. وقد كان العربي في وفرة من حاجاته الأدبية والمعنوية. لكن حاجاته المادية وحكمها القاسي الذي اضطره إلى البداوة وإلى عيش العزلة هي ركن من قواعد الحضارة لا سبيل لقيامها بدونه.
وهذا في ظننا هو أكبر السبب في غموض تاريخ العرب قبل الإسلام غموضا يكاد يكون تاما. فبينا يرجع تاريخ مصر لأكثر من ستة آلاف سنة، فيصور لنا حضارة عظيمة ثابتة الأركان والقواعد، تمتد من ضفاف النيل عبر البحر المتوسط إلى اليونان وروما، وتجتاز برزخ السويس إلى فلسطين وسوريا وما وراءهما، وتظهر فيها الحياة المادية والمعنوية والأدبية واضحة الحدود والثنايا، ثم هي ما تزال تزداد بالبحث والتنقيب ظهورا ووضوحا؛ وبينا يحدثنا التاريخ عن اليونان وروما، ويدل فيهما على حضارة ترجع إلى نحو ثلاثة آلاف من السنين؛ وبينا سائر الأمم التي كانت معروفة في تلك العصور النائية قد تأثرت بهذه الحضارات، وأثرت فيها، وكانت لها حضارات خاصة - بينا يكشف لنا التاريخ عن هذا إذا به لا يروي عن شبه جزيرة العرب قبل الإسلام بأكثر من مائتي سنة شيئا معينا.
अज्ञात पृष्ठ