फ़ी अव्क़ात फिराग़
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
शैलियों
وضع الدكتور طه مقدمة عن الحياة اليونانية، وعن الشعر التمثيلي عند اليونان. فشبه الجزيرة التي تكاد تكون قاحلة والتي جمعت إليها أشتات الأجناس المختلفة من اليونان طبعت أهل مدينتها الكبرى - أثينا - بطابع خاص هو حب العمل لاستثمار أرض قليلة الثمر، وشدة التضامن لدفع شر المغير. وقد عاشت هذه الدولة في ظل الملوك حينا. ثم في ظل الأرستقراطية لقرب نظامها من النظام الملكي واتصالها به. ثم دنت من النظام الجمهوري قليلا قليلا حتى جاء سولون، فأخذت الديمقراطية تظهر وتعلن وجودها وقدرتها على الحياة. وفي قليل من الزمن ظهر أن الديمقراطية نافعة مغنية، وبلغ من ذلك أن أنقذت اليونان من غزوات الفرس، فزعزعت عرش هؤلاء وخفضت كلمتهم وأدالت دولتهم. وكان ذلك سببا في أن ظهرت أثينا بين أمم اليونان، وكبرت مكانتها واعترف لها بالفضل على كل المدائن الأخرى.
وكانت حياة اليونان الأولين حياة دينية تعددت فيها آلهتهم، وارتفع فيها الماضون من أبطالهم إلى مركز الألوهية أو ما يقرب منه. وكانوا يقيمون أعيادا سنوية للآلهة، وبنوع خاص لديونوزوس إله الخمر ولدمتير إلهة الخصب. وكان الشعب يجد من الحفل بهذه الأعياد والآلهة ما يسمح له بالإفراط في الأكل والشراب والسكر والسرور إلى حد نسيان هموم الحياة وشقائها. وفي هذه الحفلات كان يلقن الشعراء والقصصيون طائفة من الناس أبياتا ملؤها الحزن يجيبون بها هذا الشاعر حين يلقي شعره يبسط فيه ألم الآلهة أو لذته. وكان هذا أول مظهر من مظاهر التمثيل.
ثم ارتقى التمثيل بعد ذلك وانتقل من مجرد وصف آلام الآلهة وملذاتهم إلى وصف حياة الأبطال، وأعمالهم إلى استعادة مناظر التاريخ. ووضعت الآلهة بعيدا ترقب أكثر مما تعمل.
وكان أول من خطا بالشعر التمثيلي الخطوة الأولى ذات الأثر إيسكولوس. كان من أسرة أرستقراطية، وولد في قرية مقدسة تدعى إيلوزيس يحج الناس إليها من كل وجه لتكريم دمتير آلهة الطبيعة الحية الخصبة. وشهد حرب اليونان وفارس في وقعة مارتون وشغف بالشعر الغنائي، فضرب فيه بسهم، ثم كلف بالتمثيل، وتقدم إلى المسابقة فيه ولما يتجاوز السادسة والعشرين من عمره، وانتصر في مسابقاته حتى غلبه سوفوكليس في آخر أيامه.
وكان اتجاه إيسكلولوس تمثيل إرادتنا الإنسانية في تصلبها وقوتها وعنادها واندفاعها، ثم إذا الإرادة الكبرى إرادة القضاء الهادئة المطمئنة تحول دون ما أردنا، وتذهب بكل تصلبنا وعنادنا هباء، وتنفذ هي قدرها من غير جهد ولا عناء.
وهنا يذكر لنا الدكتور طه حسين فضائل إيسكولوس الفنية، وكيف عبر عن فكرته القائدة المتحكمة في رواياته المختلفة، وكيف نجح في ذلك أكبر النجاح.
أما سوفوكليس فقد ولد في كولونا ونشأ فيها نشأة قروية خشنة بعض الخشونة، ثم انتقل إلى المدينة فتأثر بما فيها من لين العيش ونعومته؛ وكان لهذين الأثرين في حياته كشاعر ما سهل عليه الجمع بين القوة والرقة، والشدة المتناهية، والإنصات لصوت العقل . ولقد فاق إيسكولوس وبزه في آخر حياته غير مرة بقوة عبقريته الشابة المتلائمة مع عصر كان إيسكولوس - وقد صار شيخا - قد فرغ منه. وزاد هذه العبقرية أن العصر الذي كان فيه سوفوكليس هو العصر الذي ارتقى فيه العقل اليوناني والشعور اليوناني إلى حد أصبح فيه كل إنسان محسا بوجوده وبشخصيته على طريقة شديدة يود معها لو أكره كل شيء على أن يعترف بهذه الشخصية ويشعر بذلك الوجود.
لسنا ندعي إقامة المقارنة بين الشاعرين الكبيرين في هذه الكلمة. ومن شاء الوقوف عليها فليرجع إلى الصحف المختارة ويرى تطور العصر والموازنة بين مختلف ما كتب كل منهما. وإنما نريد أن نشير إلى أن شعرهما جميعا بلغ من السمو والعظمة والقوة والمتانة ما يجعلنا نعتقد أن السبب في عظمة شكسبير وراسين وكرني راجع، فضلا عن عبقريتهم الطبيعية، إلى عظمة ذلك الوحي اليوناني والروماني الذي كان يمدهم. وليس في مقدور عصورنا الحاضرة عصور التحليل الدقيق وفحص الخلايا وتعرف الجزئيات والبحث وراء النتائج بعد استقصاء المسببات. أقول: ليس في مقدور عصورنا التي هجرت البساطة الطبيعية العظيمة، وارتكست - فضلا عن ذلك - فيما هي فيه من ترف مفسد مذل أن ترقى مراقي إيسكولوس وسوفوكليس ومن نسجوا نسجهم واستمدوا الوحي منهم. وهل نرى اليوم مثل أنتيجونا قتل أخواها كل واحد منهما صاحبه، وكانا في رياسة جيشين متحاربين، فأمر ملك طيبة المظفرة في هذه الحرب بأن يدفن المدافع عن طيبة، وأن يحرم الثاني من شرف الدفن ومن الطقوس، وأن يبقى بالعراء نهبا لكواسر الطير وعوادي الوحوش. فآلت أنتيجونا على نفسها إلا ما دفنت أخاها وأقامت له كل الفرائض رغم ما أمر الملك، ورغم عناية الحراس القائمين بالحراسة. فلما استدعاها كريون إليه وقفت في وجهه وقفة جديرة بهلينا القديمة، ولم تحفل بالموت وإن جزعت على شبابها تفارقه في غضارته ونضرته، وتفارق معه الطبيعة الحلوة في أجمل أوقاتها وأبهاها. وإذا كان مثل أنتيجونا غير معروف اليوم، فإن ما وضعه سوفوكليس في فمها من الألفاظ جدير بعبقرية سوفوكليس وبعظمة أثينا. اسمع مثلا كلمات أنتيجونا حين ترد على كريون لما تشدد في سؤالها عن مخالفة أمره ودفن أخيها قالت: ذلك لأنه لم يصدر عن الإلهة ذوس ولا عن مواطن آلهة الجحيم ولا عن غيرهم من الآلهة الذين يشرعون للناس قوانينهم. وما أرى أن أوامرك قد بلغت من القوة حتى تجعل القوانين التي تصدر عن رجل أحق بالطاعة والإذعان من القوانين التي تصدر عن الآلهة الخالدين. تلك القواانين التي لم تكتب والتي ليس إلى محوها من سبيل.
لم توجد هذه القوانين منذ اليوم، ولا منذ أمس! هي خالدة أبدية وليس من يستطيع أن يعلم متى وجدت. ألم يكن من الحق علي إذن أن أذعن لأمر الآلهة من غير أن أخشى أحدا من الناس. كنت أعلم أني مائتة. وهل يمكن أن أجهل ذلك حتى لو لم تنطق به؟ ولئن كان موتي سابقا لأوانه فما أرى في ذلك إلا خيرا.
ومن ذا الذي يعيش من الآلام في مثل الهوة التي أعيش فيها، ثم لا يرى الموت سعادة وخيرا. فأنت ترى أني لا أعد هذه الآخرة كأنها عقوبة؛ فلقد كنت أتعرض لما هو أشد لنفسي إيذاء لو أني تركت بالعراء أخا حملته الأحشاء التي حملتني.
अज्ञात पृष्ठ