फ़ी अव्क़ात फिराग़
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
शैलियों
فأما الكتاب الثالث فرسائل متفرقة.
ولقد عنيت بأن لا أمس هذه الرسائل بتحوير إلا ما كان فيها من خطأ مطبعي أو بعض نبو في اللفظ عن المعنى المقصود، وذلك برغم ما في بعضها مما أشعر اليوم بأنه يحتاج إلى إعادة تحريره من جديد.
وإذا وفقت هذه المجموعة إلى أن تشغل من أوقات فراغ القارئ فترة غير مملولة كنت بذلك سعيدا.
الكتاب الأول
في النقد
خواطر في النقد
دفعني ملال الأرق ليلة إلى التنقل في قراءتي بين كتب مختلفة. فانتقلت من روسو، إلى الأغاني، إلى أناتول فرانس، إلى مصطفى صادق الرافعي، إلى حصاد الهشيم للمازني. وانقضت علي في هذه الحال ساعات كان كل شيء حولي فيها ساكنا ؛ لأنها كانت ساعات ليل أرخى فيها الظلام سدوله على الوجود وعكفت فيها الخلائق على نفسها لتستريح من نضال النهار؛ ولتجد في أحضان الكرى نعمة النسيان المطلق تستمد منه قوة تعود بها إلى نضال نهار جديد.
وكنت كلما مللت القراءة في كتاب وضعته إلى جانبي على المقعد الطويل وأطبقت أجفاني وحاولت تمليق النوم. فإذا استيأست منه تناولت كتابا آخر وقرأت فيه حتى الملال. فلما استطال بي الوقت جعلت أفكر في معركة النقد الأدبي التي حمي وطيسها أخيرا بين كتابنا، وانتقلت من ذلك إلى التفكير في النقد في فرنسا ومصر. وتواردت على أثر ذلك خواطر ثبت معها عندي أن الأخذ في مصر بقواعد النقد الأدبي المقررة في أوروبا فيه شيء من التعسف غير قليل. وأن الناقد في مصر يجب عليه أن يكون أوسع صدرا وأكثر مرونة من غير أن يكون لذلك أقل دقة، ومن غير أن يتهاون في الحق أو يتسامح فيما يجب للفن.
يفرق الكتاب في أوروبا بين النقد الذاتي والنقد الموضوعي. ويرى الأكثرون أن النقد الذاتي - الذي يصدر فيه صاحبه عن مجرد تقديره الخاص وحسه بالجمال، فيجعله مقياسا لكل ما يعرض له من ثمرات الفن - نقد غير جدير بالتقدير. ذلك أن الناقد مهما يكن من سمو الإدراك وحسن الذوق لا يستطيع أن يضع كل صور الجمال ومظاهره في مستوى واحد أمام نظره. وأنت إذا دخلت إلى متحف من المتاحف الجامعة لطرف فن التمثيل الحديث وجدت بين التماثيل الكثيرة التي يعبر بها نوابغ المثالين عن معنى خاص من معاني الجمال أوجه خلاف شتى. فهذا يرى جمال المرأة في الخصر النحيل والساق الدقيق، والنظرة الناطقة بمشاعر الحب كله. وذلك يراه في انسجام ميول الجسم انسجاما تتتبعه العين في طمأنينة كما يراه في النظرة البريئة الساذجة، وثالث يراه في رشاقة الأطراف، ورابع في بديع استدارة النواتئ. أتراك إذا كان حسك وذوقك ميالا لنوع خاص من هذه المعاني إلا مأخوذا به أكثر مما يأخذك إليه سواه؟ مع ذلك فهذه التماثيل كلها بدع من قطع الفن. فإذا أنت حكمت مندفعا وراء شعورك فقد تعرضت للغلو في مدح ما راقك، وتعرضت كذلك لإهمال ما سواه مما حكم له غيرك من الذاتيين بالتفوق المطلق.
ومهما يكن في هذا الاعتراض على النقد الذاتي من بعض الإسراف - لنسيان أصحابه أن أذواق الناقدين، إنما تتكون بعد ممارسة طويلة لمختلف صور الفن الذي يعرضون لنقده، ومعرفتهم أن الجمال لا يتقيد في الذهن المثقف بصورة مطلقة - فإن فيه كذلك جانبا من الحق غير قليل. فالذاتية في النقد داعية التحكم. والنقد قاض. وكل قاض تحكم معرض للخطأ. ومهما يقل عن فضائل المستبد العادل، فإن فيه إلى جانب فضله نقصا لا محيد له عنه؛ لأنه كمين في طبيعة الاستبداد. ذلك أنه إن أخطأ مرة لم يجد من يصده عن الخطأ، فأمعن فيه فتعرض لفساد كل مقاصده.
अज्ञात पृष्ठ