وكان صديقي يتكلم متهدج الصوت منفعل النفس ثائر الوجدان. فلما فرغ من حديثه، شملنا صوت عميق ظل يسود مجلسنا حتى افترقنا لم يجر لساننا بكلمة واحدة.
في سبيل العلم
في سبيل العلم ما احتمل غليليو، فقد قال إن الأرض هي التي تدور حول الشمس، على الضد من العقيدة اللاهوتية التي اعتنقتها الكنيسة الرومانية. لما هم رؤساء الكنيسة باتهام غليليو، كان مؤلفه قد ذاع في أنحاء أوروبا، فزاد ذلك من غضبهم عليه وتبرمهم منه، وكان على رأس الكنيسة «أريان الثامن»، ولم يكن بابا لا غير، بل كان أميرا من بيت «بربريني»، فأخذته العزة بالإثم، وأمر بأن يمنح غليليو وكتابه هبة منه لمحكمة التفتيش.
وعبثا حاول «كاستلي» البنديكتي أن يقنع رجال الكنيسة بأن غليليو يحترم الكنيسة ولا يهزأ بمبادئها، بل ضاعت كل جهوده سدى في سبيل أن يثبت لرجال الدين إذ ذاك «أنه ما من شيء يمكن عمله، من شأنه أن يمنع الأرض من الدوران.» ولكنه طرد ونفي مغضوبا عليه مقصيا به عن الكنيسة، وقسر غليليو على أن يقف أمام تلك المحكمة الرهيبة واحدا فردا بلا مدافع أو نصير؛ وهنالك عذب مرارا حتى اضطر إلى أن يعلن جاثيا على ركبتيه الاعتراف الآتي: «أنا غليليو، في السبعين من عمري، سجين جاث على ركبتي، وبحضور فخامتك، وأمامي الكتاب المقدس الذي ألمسه الآن بيدي، أعلن أني لا أشايع، بل ألعن وأحتقر، خطأ القول وهرطقة الاعتقاد بأن الأرض تدور.»
3
إنه ولا شك قد غلب على أمره؛ لأنه قسر على أن يظهر أمام كل الأجيال القادمة بمظهر الحانث بعلمه المضحي بعقله ويقينه. ومن أجل أن يتم انتصار الكنيسة عليه، وأن يؤدي بكل ما بقي له من شرف النفس، اضطر برغم منه أن يقسم بأن يفضي إلى محكمة التفتيش بأمر كل رجل من رجال العلم، يقول بهرطقة القول بدوران الأرض.
ولقد أثار قسم غليليو هذا عجب الكثير من أهل زمانه ومن المؤرخين، حتى إن ذلك كان سببا في أن ينكر عليه بعض أبناء عصره نعت «الشهيد»، غير أن هؤلاء لم يقدروا ظروف الرجل قدرها؛ فلقد كان شيخا كبيرا عمر إلى السبعين من السنين المثقلة بالهموم والأحزان، وحطمته آمال الدنيا ومخاوفها وهدمته متاعبها وواجباتها. وكم سعى متلهفا من فلورنسا إلى روما مكبا على وجهه ونصب عينيه تهديدات البابا بأنه إذا تأخر عن القدوم «أخذ في الأغلال». وكان فوق ذلك مريض الجسم منهوك العقل، سلم إلى أعدائه بيد الذين كان من الواجب أن يحموه. ولم يكد يبلغ روما حتى احتوته غرف التعذيب وانصبت عليه الآلام ألوانا. ولقد كان يعرف جيدا ما هي محكمة التفتيش، وكان يلوح له شبح «جيوردانو برونو»
4
بين اللهيب ماثلا أمامه كأنما ذلك كان بالأمس الفارط، وفي نفس تلك المدينة ومن أجل «هرطقة» العلم والفلسفة. وكان يتذكر أنه من قبل ثمانية أعوام أحيط برئيس أساقفة «اسبالاترو» وسلم إلى محكمة التفتيش متهما بهرطقة العلم، وبقي بين براثنها إلى أن مات في غيابات السجن، وأن جثته أحرقت بعد الموت مع ما كتب بمرأى من «المؤمنين».
ولقد استمر اضطهاد غليليو كل أيام حياته، بل بعد مماته. لقد بقي في المنفى بعيدا عن أسرته، بعيدا عن أصدقائه، مقصيا عن صناعته النبيلة. وقسر على أن يظل خاضعا لعهده بألا يتكلم في نظريته. ولما أن توسل إلى أعدائه، وهو بعد يعاني آلام المرض وأعظم تباريح السقام، مقرونة بأقسى الآلام النفسية التي سببتها الكوارث التي نزلت بأسرته، طالبا أن يمنح من الحرية بعض الشيء؛ كان التهديد بإلقائه في غيابات السجن الجواب على ملتمسه الصغير. ولما أن قررت لجنة خاصة عينتها السلطات الكنيسية بأنه أصبح أعمى لا يبصر، وأنه ذهب ضحية المرض والحزن، منح بعض الحرية ولكن بحدود جعلت تلك الحرية استعبادا.
अज्ञात पृष्ठ