وبهذا تقوم تلك الأجيال بالعمل الطبعي، في تكوين التاريخ الأدبي لأمة طويلة العمر، تقادم العهد بلغتها، فأفنت بضعة عشر قرنا. وهي يقظة ناشطة مثمرة، تكفي حاجات الملايين في مختلف الأقطار والأنحاء من الدنيا القديمة، ثم من الدنيا الجديدة أخيرا. وهو العمر الطويل، لم يتح للغة ما، ولم يتنفس به أدب ما من آداب العالم. وهو الامتداد الفسيح المدى، لم يكد يتهيأ كذلك للغة في هذه الأنحاء من الأرض، على ذلك التطاول من العمر. •••
وهل يبدو هذا المسلك في الدرس غريبا حينما نصفه الآن، مع أن هذا التدرج هو الذي كان طريق سير الدراسة الأدبية، فيما مضى من العصور، على ترتيب الزمن ومقتضى الحاجة؟! ألم يكن المتأدب أيام غلبة البداوة يتأدب بملازمة الشاعر يتبعه ويروي له، ثم راح بعد المشاركة في التحضر يتأدب بالخروج إلى البادية، يأخذ عن الخلص فيها. أو جعل يتأدب باستقدام البداة إلى المدن والقصور، ثم مضى يتأدب بالرواية والتلقي والحفظ، ثم صار يتأدب بالإملاء والتدوين، ثم تحول يتأدب بالدرس والقراءة ... إلخ، ما كان من خطوات ذلك مسايرة للحياة؟
لقد كان ينبغي أن يكون تأدب المتأدبين اليوم فينا، منذ أردنا مجاراة نهضات الأمم، بالعناية الموفرة على مرحلة الدرس التي تتطلبها طبائع الأشياء، ويقوم بها سداد العوز. ولكنا لم نفعل، ولا أدري متى سنفعل؟ فقد بدأنا من النهاية فلم نقم آخرنا على أول صحيح، ولا صححنا أولا ليقام عليه بعدنا آخر، يتولاه غيرنا. فمتى يصحح هذا ويستقيم فيه سير الدرس الأدبي، والنظرة الأدبية إلى حياة هذا الشرق؟!
بين الأدب وتاريخ الأدب
على أن وراء ذلك كله شيئا لا يمكن إغفاله، وهو اضطراب الأمر فيما بين الأدب وتاريخ الأدب؛ ذلك أن هذا التاريخ الأدبي إنما مادته الكبرى هي المتون الأدبية نفسها، يجب أن تفهم وتتمثل، لتؤرخ ويؤرخ أصحابها. ثم هذا الفهم الصحيح للمتن الأدبي يقوم على أشياء؛ منها ما يعد الآن من التاريخ الأدبي نفسه، مع أنه لا بد منه لفهم هذه المتون على وجهها! فكيف يكون الأمر ما دامت الحال على هذا الدور بينهما؛ يقوم تاريخ الأدب على فهم الأدب، ويقوم فهم الأدب على شيء «يعد من تاريخ الأدب»؟!
أحسب أنه كان من هذا الاضطراب أن اضطرب منهج مؤرخي الآداب عندنا، فلم يقيموا درس تاريخ الأدب على أساس من فهم الأدب نفسه، ذلك الفهم الكامل المتعمق، بل راحوا يلتمسون ألوانا من الفروض والاحتمالات، لا سند لها ولا أساس، بنوا عليها هيكلا ورقيا من تأريخ الأدب. وأكثر هذه الفروض ينتزع انتزاعا من وادي المشابهة المزعومة، التي تقام على أيسر وجه من الشركة بين الأدب العربي في عصر من العصور، وبين أدب أمة أخرى في عصر ما من عصورها، فينتزعون من هذه المشابهة التي يكفي القائل بها أن يجد لها بوادر لائحة، ومخايل مخيلة - مهما تكن بعيدة - لينتزع منها مسالك لسير الحياة الأدبية، على صور المسالك والاتجاهات التي لمحها مؤرخو الآداب المحققون عند أهل هذه العصور في الأمم الأخرى. فآونة ترى صورة من الحياة اليونانية القديمة، أو الرومانية القديمة، أو هي الفرنسية الحديثة، أو لتكن الإنجليزية الحديثة، تقتسر الحوادث على أن تسير في طريقها وتفسر بمعالمها؛ وهي من ذلك بعيدة جد البعد غير ملتئم أولها مع آخرها. وسر المسألة أن هذا الأدب العربي المؤرخ لم يدرس درسا يفتح مغالق الطرق التي مر بها، وهؤلاء الأدباء الذين صنعوه لم نفهم حياتهم، فتفهم بذلك آثارهم، وتستبين أغراضهم، وتتضح مسارب هذه الاتجاهات والنزعات إلى نفوسهم؛ فلم يبق للدارسين المستريحين إلا هذه المشابهة الظاهرة، فالفروض المنتزعة من المشابهة المزعومة، فالضغط القاتل الحاطم الذي يضع هذه الحياة الشرقية، وهذا الأدب الشرقي في قوالب الحياة الأخرى البعيدة التي شبهت، بها لمخايل لائحة من بعد! •••
وما يعنينا هنا أن نبين في إسهاب مآثم هذه الاتجاهات الفرضية وما ماثلها في حياة الدراسة الأدبية. إنما الذي نقصد إليه أولا هو بيان أثر هذا التدخل بين الأدب وما هو من تاريخه؛ لنلفت إلى وجوب تنسيق الدراسة الأدبية، مع وجود هذا الذي يبدو من التراكب والتداخل، في فهم المحدثين للأدب وتاريخ الأدب. •••
وأساس هذا التنسيق - فيما يبدو لي - يستقر على ما قدمت آنفا من فهم دقيق لتاريخ الأدب، وأنه ليس إلا تبينا لمظهر من مظاهر الحياة الإنسانية في سيرها وتدرجها، وتفهما لتطورها وانتقالها؛ كيف كان ذلك؟ وكيف تم؟ وما معالمه الخاصة به المميزة له، في جوه المعين، غير مضبوط بمعالم أجنبية من اعتبارات سياسية، أو فواصل من الدول والأسر على ما يفعلون؟
وهذا التاريخ الأدبي إنما هو وصف علمي بقدر ما تستطيع الطاقة الإنسانية، للون من ألوان الحياة الفنية في وجود الجماعات البشرية، وصف يرصد نواميس تلك الحياة ويسجل ظواهرها، ويكشفها للدارس، كما يكشف البحث العلمي حياة كائن من الكائنات، ويعرف بمعالم ذلك وقوانينه. وهذا المعنى المرجو في تاريخ الأدب والأدباء يباعد كثيرا بينه وبين التشبث الساذج بالسنين والأعوام، والأماكن، والسرد القصصي، لواقعات الحياة وأحداثها، كما يجعل هذا التاريخ الأدبي يفرق من أن يطلق هاتيك الأحكام العابرة الفضفاضة عن حياة عصر، ووجود فن، وطابع متفنن، وخصائص فرد أو جماعة، على نحو ما يطلق ذلك اليوم، في سهولة مستهينة، ويسر مستخف.
وهذا المعنى المرجو في تاريخ الأدب يقطع الطريق على مثل هذا كله، حين يتمثل وعورة السبيل، وخفاء المعالم، وصعوبة المطلب، وجلال الغاية؛ فيطيل الدرس، ويمعن في التأمل، ويحسن التثبت، ويجيد التدقيق، ويجعل كل هذه الهنات التي اكتفينا بها في تاريخ الأدب، وخدعنا بها عن الواجب الأمثل فيه، يجعل كل هذه مقدمات أولى، يمكن أن تخص باسم «ما حول المتن الأدبي»، أو «ما لا بد منه لفهم الأدب»، أو «أدوات الدرس الأدبي»، أو ما شئت أن تتخذه من أسماء مشبهة لذلك، لا جناح عليك في تخيرها، فإنما موضع العناية عندي أن تشعر بأن هذه المحاولات كلها، شيء يتيسر به درس النص الأدبي، ويجعلك تفهم المتن فهما مجديا، له أثره في تكوين الذوق الأدبي، أو تكميل شخصيات الموهوبين من دارسي الآداب، بإرهاف أذواقهم، ثم له بعد ذلك معاونته الهامة في تحقيق التاريخ الأدبي على النحو الذي تمثلناه آنفا.
अज्ञात पृष्ठ