والفكرة السابقة في إنكار إقليمية الأدب ذات شقين؛ أصل مجمل هو وحدة الآداب العربية والثروة الفنية من القول، على اختلاف أقاليمها المتنائية، وحدة في الفنون والموضوعات، والأغراض والمعاني.
ثم فرع هو كالتطبيق على هذا الأصل، يثبته ويؤيده؛ وهو أن الأندلس على نأي الدار، وبعد الشقة، والتفاوت، قد كانت صورة من المشرق لا تعدو ذلك في شيء ما.
وفي عرض الفكرة بشقيها على نحو ما رأينا، شيء من الدخل يحسن قبل التصدي لها أن نبينه ثم نزيحه ليبقى الجوهر السليم منها، نتحدث بعد ذلك عنه محدودا نقيا.
وأكثر هذا الدخل في الحديث عن الأندلس مكتوب منضبط، يؤمن الاختلاف فيه عند الملاحظة عليه.
فمن ذلك ما في دعواهم من أن الأقدمين أنفسهم قد قرروا عدم الفرق بين المشرق والأندلس، واحتجاجهم في ذلك بعبارة الصاحب عن العقد الفريد: «هذه بضاعتنا ردت إلينا.» فإن ابن عبد ربه إذا ما ألف كتابه في الاختيار من عيون الأدب المشرقي؛ ليتأدب به الشادون في الغرب، لا يكون ذلك في نفسه حجة عدم الفرق عند ابن عبد ربه والمتقدمين. والصاحب إذا دفعته العصبية الشاعرة في نفسها بالفرق بين المغرب والمشرق، فقال: «هذه بضاعتنا ردت إلينا»، لا يكون ذلك - فيما أرى - شاهد تسليم الأقدمين بعدم الفرق!
ومن أظهر الدخل ما في عبارة ابن بسام المنقولة عن الذخيرة، فإنها مقتطعة من مقدمة الكتاب، قد فصلت عما قبلها وما بعدها، فبدت كأنها تقدير لاطمئنان المغاربة إلى التقليد المطلق للمشارقة، مع أن المؤلف يوردها في سياق يقوم على إنكار هذا، ومدافعة استئثار المشرق بالحسن والميزة الأدبية. «فابن بسام» يقول قبلها (ص1): «وما زال في أفقنا هذا الأندلسي القصي، إلى وقتنا هذا من فرسان الفنين، وأئمة النوعين، قوم هم ما هم، طيب مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر، لعبوا بأطراف الكلام المشقق، لعب الدجى بجفون المؤرق» ... إلى أن يقول في وصف آثارهم: «نثر لو رآه البديع لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولاه حكمه. ونظم لو سمعه كثير ما نسب ولا مدح، أو تتبعه جرول ما عوى ولا نبح.» وبعد هذا يذكر أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل المشرق كما في النص السابق، ثم يعقب على ذلك منكرا بقوله: «وأخبارهم الباهرة، وأشعارهم السائرة، مرمى القصية،
4
ومناخ الرذية،
5
لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد، فغاظني ذلك منهم، وأنفت مما هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل دهري وعصري؛ غيرة لهذا الأفق الغريب ... إلخ.» فللمغاربة أدبهم وآثارهم، لكنهم يكبرون المشارقة ويقدمونهم؛ لاعتبارات اجتماعية أو سياسية ما يعنينا أمرها، وابن بسام ينكر ذلك من أمرهم، فليس في عبارته شيء من شهادة الأقدمين للوحدة المطلقة بين المشرق القصي والأندلس، بل هو نفسه يؤيد ذلك فيما بعد، فيقول آخر هذا الكلام (ص2): «وليت شعري! من قصر العلم على بعض الزمان، وخص أهل الشرق بالإحسان؟» ويمضي قدما فينكر كل الإنكار هذا الجمود، وإيثار عصر على عصر، ويعلن هذا الإنكار محتدا فيقول: «ولحى الله قولهم - والفضل للمتقدم - فكم دفن من إحسان، وأخمل من فلان؟! ولو اقتصر المتأخرون على كتب المتقدمين لضاع علم كثير وذهب أدب غزير» (ص3). فهو يشعر بالمغايرة، ولا يطمئن إلى الفكرة الجامدة في إمامة السابق، ومن هذا شأنه لا يسلم بتقليد المشرق! بل هو - فيما أشعر أنا - يمضي على أبعد من ذلك، فيحدث حديثا واضح المقصد، عن اختلاف البيئة وأثره، إذ يقول (ص3-4): «وذهب كلامهم - أي أهل الجزيرة - بين رقة الهواء، وجزالة الصخرة الصماء، ما قال صاحبهم عبد الجليل بن وهبون يصف شعره:
अज्ञात पृष्ठ