وقصة اختفاء النديم وحيله التي ضلل به السلطة على الرغم من المكافآت التي رصدتها لمن يأتي به، جديرة بأن توضع في رواية تمثيلية, وستكون رواية غاية في القوة؛ لأنه أجادج التنكر إجادة يعجز عنها أمهر الممثلين اليوم في بلاد "الخيالة" واسمعه يصف بإيجاز هذا التنكر الذي دام تسع سنين وهو بمصرلم يبرحها, ويمر بين رجال الحكومة، وصنائع الإنجليز دون أن يدركوه، أو يعرفوه1: "خرجت من مصر مختفيا فدرت في البلاد متنكرا، أدخل كل بلد بلباس مخصوص، وأتكلم في كل قرية بلسان يوافق دعواى التي أدعيها، من قولي إني مغربي أو يمني أو مدني أو فيومي أو شرقاوي أو نجدي، وأصلح لحيتي إصلاحا يوافق الدعوى أيضا، فأطيلها في مكان عند دعوى المشيخة، وأقصرها في آخر # عند دعوى السياحة -مثلا- وأبيضها في بلد, وأحمرها في قرية، وأسودها في عزبة, وتغيرت الأسماء التي انتحلتها، والناس في عجب من أمره, فالقدرة مقدرة النديم، ولكنه يختلف عنه في الشكل والصوت واللهجة، فيقولون: سبحان الله جل من لا شبيه له".
وقد أتيح له من الفراغ وهو في اختفائه هذا ما مكنه مواصلة دراسته، وشغل نفسه بالتأليف وقرض الشعر، وقد ألف في كثير من العلوم، وفي هذا يقول من رسالة لصديق له: "تارة أشتغل بكتابة فصول في علم الأصول، وأجمع عقائد أهل السنة بما تعظم به لله المنة، وحينا أشتغل بنظم فرائد في صورة قصائد، ووقتا أكتب رسائل مؤلفة في فنون مختلفة، وآونة أكتب في التصوف والسلوك وسير الأخبار والملوك، وزمانا أكتب في العادات والأخلاق وجغرافية الآفاق، ومرة أطوف الأكوان على سفينة تاريخ الزمان، ويوما اشتغل بشرح أنواع البديع في مدح الشفيع, وقد تم لي الآن عشرون مؤلفا بين صغير وكبير، فانظر إلى آثار رحمة الله اللطيف الخبير، كيف يجعل أيام المحنة وسيلة المنحة والمنة، أتراني كنت أكتب هذه العلوم في ذلك الوقت المعلوم، وقد كنت أشغل من مرضعة اثنين، وفي حجرها ثالث، وعلى كتفها رابع، وأتعب من مربي عشرة وليس له تابع".
पृष्ठ 318