وهو يمثل المدرسة الثالثة من المقلدين، تلك المدرسة التي قلد أربابها بلغاء القرن الرابع؛ كالصاحب بن عباد، وابن العميد، وقلدوا كذلك في حياتهم وأسلوبهم وتنميق رسائلهم القاضي الفاضل، وابن مطروح، واستطاعوا بما أوتوا # من تضلع في اللغة، وتمكن من الأدب، وذوق مرهف حساس ألا يكونوا صدى لهؤلاء الكتاب القدامى، بل أضفوا على ما كتبوا طابعهم وشخصيتهم، ومثلوا عصرهم بعض التمثيل، فتشعر حين تقرؤهم أنك تقرأ كتابا في القرن التاسع عشر، وذلك لخوضهم في الموضوعات الحيوية للبلاد، ولتخلصهم في بعض الأحيان من قيود الماضي جملة، فلا سجع ولا تنميق ولا تزويق ولا محسنات، وإنما يتبعون طريقة ابن خلدون في الترسل, مع متانة نسج, وحسن عرض, وإن كانوا في كثير من الأحيان, ولا سيما حين يحتفلون بكتاباتهم، أو يراسلون عظيما أو أديبا، أو يتحدثون عن لسان السلطان أو الأمير، يعمدون إلى الأسلوب الشعري المنثور، بما فيه من خيال وسجع، وفقرات تختلف طولا أو قصرا، ويزخرفون كتاباتهم ويرصعونها بشتى الحلى اللفظية والمعنوية، وهنا تتضاءل شخصية بعضهم, وتحافظ شخصية آخرين على وجودها في وسط هذه الزينات والتقاليد تبعا لتمكن الكاتب من موضوعه، وحذقه للغة، ومتانة شخصيته, وتمييز خصائصها.
كان لديوان الإنشاء في الدولة العربية منزلة سامية، يتوصل به الكاتب والشاعر إلى أرقى مناصب الدولة، منذ سهل بن هارون، ومحمد بن عبد الملك الزيات، وابن العميد، والقاضي الفاضل، وابن مطروح، وقد مضى على مصر حين من الدهر استعجمت فيها لغة الدواوين، وسادت التركية، وصدرت بها قوانينها ورسائلها، ووصلت العربية الحضيض، ولم يبق فيها إلا ذماء يسير، وحاول إسماعيل -كما ذكرنا- بعث اللغة العربية، وترجمة القوانين التي صدرت من عهد محمد علي حتى أيامه من التركية إلى العربية، كي يسهل عليه الانفصال عن الدولة العثمانية حينما تلوح الفرصة، وقد كان لعبد الله فكري يد كريمة في هذا العمل الجليل، فبعث اللغة الديوانية، لا ركيكة ولا سخيفة، بل ممتلئة رونقا وقوة، فصار نموذجا يحتذى، وأستاذا يأخذ الناس عنه طريقة الكتابة الديوانية, وتدبيج الرسائل الأدبية.
पृष्ठ 145