फैसल अव्वल: यात्राएं और इतिहास
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
शैलियों
عندما أعلن جواب الحكومة البريطانية اهتزت له البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وذلك الجو السياسي الخبيث، المفعم بالريبة المثقل بالغل، غدا رائقا نقيا مشرقا بالآمال، متموجا بالثقة متألقا بالسرور والارتياح. لله هؤلاء الشرقيون ما أسرعهم لتقدير الحسنى! وما أكرمهم فيه! وإن هذا الكرم وذاك التقدير لمن تراثهم القومي والخلقي. فإذا ما رقص القلب طربا، واهتزت العواطف عرفانا بالجميل، أذاعت الأقلام آيات الحمد، ونثرت الألسن درر الثناء.
كان رئيس الوزارة عبد المحسن السعدون في طليعة المبتهجين؛ فقد جعل بيانه الوزاري (19 أيلول) خطبة رائعة مجنحة، وهو فخور أن وزارته هذه تمثل البلاد كل التمثيل، ومتيقن أن ستكلل أعمالها بالفوز الباهر. صدقت كلمته الأولى؛ لأن الوزارة تألفت من الأحزاب السياسية كلها، ولكن رحى الحرب إنما هي في البلاط، يديرها الملك ويشرف عليها؛ فقد شاء أن تكون هذه الوزارة أقوى ما تقدمها، أعمها نفوذا وصولة، فكان من أعضائها ياسين الهاشمي زعيم المعارضة، وناجي السويدي ونوري السعيد، وكلهم قلب واحد وفكر واحد في الرغبة بالتعاون والحكومة البريطانية، كلهم متيقنون أن ستتوفق المفاوضات هذه المرة، وسيفوز العراق سنة 1932 بما يبتغيه.
بيد أن الأقدار استمرت في تمردها، وما لبث المتفاوضون أن علموا أن قلب المسألة لم يتغير تغيرا يذكر؛ فقد كانت الحكومة البريطانية تظن أن وعدها المطلق بالتوسط لدخول العراق في عصبة الأمم يحمل العراقيين على قبول المعاهدة الجديدة، وإن كانت بمضمونها لا تختلف كثيرا عما تقدمها. فضلا عن ذلك قد اختلف المتفاوضون مقاما ومزاجا؛ فالذي مثل دار الانتداب - أي المندوب السامي بالنيابة - لم يكن بإمكانه أن يحل أو يربط، بل كان عليه أن يبلغ الحكومة العراقية مشيئة حكومته المتعسفة، كان «جبارا» بالنيابة، يثير الأحلام ولا يسودها، وكانت الوزارة فيما سوى فكرة التعاون التي مر ذكرها على تباين في العقليات والنزعات، رئيسها عصبي المزاج؛ تارة تخمد ناره، وطورا تحتدم. وياسين الهاشمي جندي المنهاج، يضرب عندما تسنح الفرص ضربته القاضية، وناجي السويدي فقهي الروح غزير المادة، كثير البوادر القانونية.
أضف إلى هذا أن العقبات الكأداء كانت لا تزال قائمة في طريق المفاوضات. وهذه العقبات هي الاتفاق المالي، والاتفاق العسكري، وقوة الطيران البريطانية في العراق؛ فالوطنيون المتطرفون، يتقدمهم ياسين، استمروا يحاجون بخصوص ملكية مرفأ البصرة وسكة الحديد العراقية وثمنها، وأصروا على التجنيد الإجباري بمساعدة القوات البريطانية إذا اقتضى الأمر، وظلوا يعترضون على إنشاء قوة بريطانية للطيران في العراق؛ لأن ذلك ينافي السيادة الوطنية والاستقلال.
أما الرئيس عبد المحسن فقد كان يرى، في ساعاته الهادئة، رأيه السديد في التطرف وأضراره، ويحاول أن يبني جسرا للعبور بين وزارته ودار الانتداب، وكان في بعض الأحايين يرى عجز دار الانتداب أو ترددها في التعاون، فيخرج عما ملك من نفسه، محتدم الغيظ، منددا مهددا؛ فأثار عليه المتطرفين والإنكليز معا.
وقد فاته وفات زملاءه أن عصبة الأمم نفسها تحسن التذبذب؛ فقد ترفض قبول العراق عضوا فيها بالرغم من توسط بريطانيا. هذا الوجه الجديد من وجوه التمحل عرضه المندوب السامي بالنيابة - «الجبار» بالنيابة - فزاد في الطين بلة. فغمز السعدون قناته في إحدى المحادثات، وقد ذكره في جلسة أخرى بأن عبد المحسن السعدون هو الوحيد من وزراء العراق كلهم الذي وقف في أحرج المواقف دفاعا عن الإنكليز، وما كان «الجبار» بالنيابة ليرعوي، فازداد سخط عبد المحسن. وفي مجلس الملك فيصل، ذات ليلة، ضرب المائدة بيده، وهو يقول للمندوب السامي بالنيابة: «لا أقبل هذا منك، وإني أذكرك بأنك تخاطب رئيس الوزارة العراقية.»
إلا أنه استمر في سعيه لإقناع المتطرفين، وإلانة جانبهم. فكان يجادل ويجامل فيحسن الحجة ويحسن النصح. وكان عند تشبثهم بغير المعقول يعصف ويزمجر ويرتعد. تنازعت في صدره الوطنية والحقيقة، بل تنازعته حقيقة الوطنية نظرا وعملا. وكفى بالمرء هذا الاضطراب وهذا الشقاق الداخلي، خصوصا إذا كان حاد الطبع، عصبي المزاج . أضف إلى ذلك ما جاءه من الخارج مما زاد في محنته؛ فقد حملت عليه صحافة بغداد حملات منكرة، وتكاثفت حوله غيوم دار الانتداب وهي مثقلة بالغل والشنآن.
أجل، كان السبيل سبيله يزداد، كلما تقدم فيه، وعورة وشدة وظلاما، فصار يسمع أصواتا تناجيه ولا تؤاسيه. سمع همس الباطل، وسمع همس القدر، بل رأى نفسه بين حجري الرحى؛ أي الواجب والشرف، ولم يكن في إمكانه أن يرجع ولا أن يتقدم. تقطعت في صدره أوصال العزم والإيمان. أوقفه العجز واستولى عليه القنوط. فإذا كان لا يستطيع أن يسكت المنددين به من أبناء وطنه، والمتحاملين عليه من الإنكليز، أفلا يستطيع أن يسكت قلبه، أن ينزع منه عنصر الحياة؟ لقد سأل نفسه غير مرة هذا السؤال، وفي 13 تشرين الثاني سنة 1929 أجاب عليه جوابا فاصلا نهائيا.
4
حدثني الأديب أحمد حامد الصراف الذي كان يومئذ مدير المطبوعات، قال: «كنت أطالع الجرائد كل صباح، وألخص ما يتعلق به وبالحكومة من الأخبار والمقالات، وكان يسألني عندما ألفت نظره إلى مقال فيه طعن أو تحامل عليه أن أراجع القانون المختص بالذم والقذف، فأطلعه عليه. ولكنه في الأيام الثلاثة التي تقدمت الفاجعة، كان يقول عندما يسمعني أقرأ من الطعن المقذع عليه: «سامحهم يا ولدي.» ثم يعظني بالحلم والتؤدة وكرم الأخلاق، ويقول: «إنهم إما جهلاء - يا ولدي - وإما فقراء، فهم إذن في حاجة إلى التهذيب أو إلى المال، في كلا الحالين هم جديرون بالرثاء. ارث لحالهم - يا ولدي - واستغفر الله لهم.» وفي اليوم السابق ليوم الفاجعة رحت أنا إليه شاكيا. كنت قد سئمت العمل في دائرة المطبوعات، وأخذت أعلل النفس بوظيفة أخرى، قلت له: «عيني سكرتيرا أو كاتبا في دائرة من دوائر الحكومة، أو أرسلني إلى إحدى القنصليات العراقية في الخارج.» كان ساعتئذ مضطرب النفس كثير الهواجس، فقال لي وهو يبتسم بسمة رقيقة ناعمة: «وأنا - يا ولدي - سئمت الوزارة، أرسلني إلى الجنة، أرسلني إلى الجحيم».»
अज्ञात पृष्ठ