फैसल अव्वल: यात्राएं और इतिहास
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
शैलियों
1
أما السر غلبرت فقد تغلغل الموضوع في عقله وقلبه معا. وبعبارة أدق أقول إنه تغلغل في عقله، ودخل على قصد إلى قلبه؛ فقد كان ذا علم جم بالعرب والبلاد العربية، وكان لعلمه جناحان من الحب والحماسة، فاستطاع أن يحلق والوطنيين في سماء الأماني والآمال دون أن يفادي بعقيدته ، وأن يعود بهم إلى أرض الحقائق العملية دون أن يفقد ثقتهم به . ومن جميل يقينه وبليغ حكمته، أن أقصى الأماني الوطنية تتكيف وتلتئم والمصالح البريطانية، اللهم إذا روعيت فيها كرامة الوطنيين.
عندما وصل إلى بغداد في أوائل آذار من عام 1929 كان الجو السياسي في أشد مظاهر القلق والريبة والخطر؛ فما زالت البلاد بدون وزارة، وما زالت الأزمة في اشتداد. وقد كان العراقيون، على اختلاف مطالبهم ونزعاتهم، يشكون كلهم من المستغربات والمناقضات في سياسة الإنكليز وأحوال البلاد؛ فأين السيادة الوطنية من الانتداب؟ وأين الجيش الوطني وأمره في الحقيقة بيد المندوب السامي؟ وأين الوزراء المسئولون قانونيا لدى المجلس ما دام المستشارون البريطانيون في الوجود؟ وهذا الجيش الضعيف الذي نريد أن نقويه بالتجنيد الإجباري، والتجنيد الإجباري غير ممكن بدون جيش قوي، وهذه الحكومة التي يحق لها أن تعلن الأحكام العسكرية لا يحق لها أن تنفذ تلك الأحكام، وهذه الحكومة المتولية إدارتي ميناء البصرة وسكة الحديد، ولا تملكهما، وهذه الحكومة التي تدفع نصف نفقات المندوب السامي وديوانه دون حق البحث أو السؤال، وبعد ذلك كله، هذه الحكومة العراقية التي يزدريها الإنكليز، وهذه الأمة العراقية التي يعبث الإنكليز بمقدراتها. لولا ذلك لما كان هذا التلون منهم، وهذا التقلب في وعودهم وعهودهم.
إن أول هذه الوعود وأهمها في نظر العراقيين التوسط لدخول العراق في عصبة الأمم؛ فقد قال الإنكليز في وعدهم الأخير: «إذا استمر العراق في رقيه، وجرت الأمور مجراها الحسن ...» هذا التلون الأخير في الاحتياط دخل على القلوب فأفسد ما تبقى فيها من حسن النية والأمل، بل زاد بما فيها من الغل والشنآن، فقال العراقيون: «لقد خاننا الإنكليز.» وقال بعض الإنكليز أنفسهم: «كدنا بسياستنا نقضي على ثقة العراقيين بنا.»
كان السر غلبرت كلايتون سريع الإدراك، سريع العمل. وقد أدرك أن هذه الشكوى هي مفتاح المعضلة المحيرة للألباب، انتهز الفرصة السانحة لحلها، أقدم على العمل الذي يضمد جروح الكرامة العراقية، فيعيد إلى قلوب العراقيين الثقة بالإنكليز.
ولكن الشكوك ظلت سائدة حتى في البلاط، وقبل أن أقدم الملك على تجديد المفاوضات أراد أن يسبر غور المندوب السامي؛ فما هي مثلا سياسته العربية؟ ما هي الصلة التي تجمعه بابن سعود؟ فقد أفلحت مفاوضاته في الرياض، وعقد والملك عبد العزيز باسم الحكومة البريطانية معاهدة ولاء، بل معاهدتين. لم يكن الملك فيصل ليهتم بهذا الأمر في غير تلك الأحوال، وخصوصا أن العلاقات العراقية السعودية كانت لا تزال متوترة، فقد قاسى كثيرا من حسن الظن، وكان عليه أن يرعى الحديث: إن سوء الظن من حسن الفطن.
لذلك باشر العمل متئدا، فكانت الوزارة الأولى، التي تألفت بعد وصول السر غلبرت كلايتون بشهر واحد (28 نيسان سنة 1929) نوعا من التجربة، وكان توفيق السويدي رئيس الوزارة مثل الجندي الذي يرسل إلى ما دون خطوط النار للاستكشاف.
أما السر غلبرت فما عتم أن كشف أمره؛ إذ قال في خطبة له: «قبل أن تنتهي مدة وظيفتي، آمل أن أرى العراق متبوئا الكرسي الذي هو جدير به في عصبة الأمم.» ثم مكن قوله في المذكرات مع الوزارة الجديدة، فأعرب عن رغبته الصادقة في تأييد العراق في مطالبه، وخطا الخطوة التي فيها كل اليقين وكل الاطمئنان؛ إذ أرسل إلى حكومته يقترح عليها أن «تلغي الشرط الذي يقيد وعدها بالتوسط لدخول العراق في عصبة الأمم.»
خلال ذلك كانت الأزمة السياسية في إنكلترا قد انتهت بانهزام الأحرار والمحافظين وبفوز العمال، فعاد المستر رمزي مكدونلد (في 5 حزيران 1929) إلى الوزارة؛ إذن ستنظر حكومة العمال في اقتراح السر غلبرت، ومع أن الملك فيصل ورجاله لم ينسوا ما كان من تحفظ وزارة العمال السابقة في صيف 1924 ومن تذبذبها، فقد توسموا الخير في الانقلاب السياسي الجديد، وفي رجوع العمال للحكم، وأخذ الجو السياسي في بغداد ينكشف وينجلي.
ولا عجب، إن خمس سنوات من زماننا هذا لتغير في طباع الأحزاب السياسية، إن لم يكن كذلك في مبادئها. انتفضت آمال العراقيين وحلقت عاليا، ورأى الملك أن الوقت قد حان لتغيير الوزارة السويدية التي استقالت في أواخر شهر آب. ولكن عبد المحسن السعدون، الذي دعي لتأليف وزارة وطنية قوية ، تتمكن من معالجة الأمور في تطورها الجديد، أبى أن يفعل قبل أن تقبل الحكومة البريطانية اقتراحات المندوب السامي.
अज्ञात पृष्ठ