फैसल अव्वल: यात्राएं और इतिहास
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
शैलियों
ولكن لندن عدوة الأحلام، ووزارة المستعمرات فيها تقرأ أنباء «بابا كركر» وتمضي في أمورها، ومن تلك ما كان مهيئا لفيصل؛ فقد صدم في وزارة المستعمرات يوم وصوله صدمة عنيفة، جاءت في مذكرة كانت تنتظره هناك. جاش في صدره الغيظ وهو يقرأ ويتأمل خط كاتبها، عرف الخط وتأكده، فازداد تغيظا. نعم، هو خط المندوب السامي السر هنري دوبس نفسه، وفي كلماته التهم والتوبيخ؛ الملك فيصل يناصب بريطانيا العداء، الملك فيصل لا يمثل العراق بما يفعل ويقول، الملك فيصل يناصر المعارضة ويشجع سرا المعارضين والمتطرفين. ينبغي أن يعلم أنه ملك دستوري لا يجوز له أن يتدخل في شئون الدولة، فيتركها لرؤساء الحكومة وللبرلمان، ويجب عليه أن يترفع عن المنازعات والسياسات الحزبية ... سأل الملك معنى ذلك وبيانه، فقيل له إنه جاءهم في التقارير الرسمية من بغداد.
ليس في تلك المذكرة، نظرا إلى الزمان والمكان، شيء من حسن الذوق، وليس فيها - نظرا إلى الأحوال - شيء من الأصالة والسداد. وهب أن ما جاء فيها صحيح، فهل تساعد يا ترى في إنجاح المفاوضات؟ وهب أن اضطراب الجو كان وقتيا، وأن حلم الملك فيصل وصبره تغلبا على شعوره؛ فكيف السبيل إلى التوفيق بين حقائق السياسة وظواهرها؟ كيف نستطيع أن نوفق بين معاهدة سنة 1922 وبين الأحوال الحاضرة؟
مما لا مراء فيه أن العراق - في الخمس السنوات الأخيرة - تقدم تقدما يذكر، سياسيا واقتصاديا، وأن النفقات البريطانية الإدارية والعسكرية هبطت هبوطا جسيما. ومما لا ريب فيه أن كفاية العراق للعضوية في عصبة الأمم هي أظهر مما كانت يوم رفع اللورد بارمور صوته في مجلس العصبة، وردد تقريره سنة 1925 صداه أمام لجنة الانتدابات الدائمة، تنويها بالعراق، وتأييدا لمطالبه.
ولكن ... ولكن، نظرا إلى حكم العصبة بالموصل للعراق، وتقييد ذلك الحكم بشرط هو أن تمدد المعاهدة عشرين سنة ، ودفعا للظنون التي قد يثيرها التعديل أو محاولته في نفوس الأتراك، فيعودون إلى المطالبة بالموصل فضلا عن أن اتهامهم بريطانيا والعراق بنقض العهود بعد بلوغ الأرب؛ نظرا إلى هذه الأمور كلها ليس من مصلحة الحكومتين أن نستعجل الانضمام إلى عصبة الأمم، بل ينبغي أن نؤجل المسألة إلى سنة 1932،
1
وستظل في هذه الأثناء العلاقات البريطانية العراقية على حالها.
أما الوفد العراقي فقد قاوم هذا التمحل وحاول التغلب عليه، مصرا على تعديل يعد تعديلا. فأخفق في محاولاته ومساعيه، ووقف المتفاوضون أمام العقدة التي لا تحل. فغضب العسكري بلندن، كما غضب قبله السعدون ببغداد، وحمل حقائبه وارتحل.
وكان الملك فيصل قد عقد النية على الرحيل، لولا فرصة سنحت لإعادة المحادثة والحكومة؛ فقد أقيمت له مأدبة وداع، حضرها بعض الوزراء، فخطب فيها خطبة بليغة بصراحتها. ومما قال إنه يؤثر العودة صفر اليدين على أن يحمل معاهدة لا تفضل التي سبقتها بشيء، بل هي دونها في بعض موادها. فهز الوزراء رءوسهم أن صحيح، وأكدوا له بعد ذلك أن الأمل لم ينقطع، وأن المأزق قد يتسع للخلاص.
توقف الملك فيصل عن السفر، وأبرق إلى وزيره جعفر، الذي كان قد بلغ مرسيليا، يأمره بالعودة. امتثل جعفر للأمر، فعاد أدراجه، ثم استؤنفت المفاوضات وقبلت المعاهدة دون تعديل فيها يستحق الذكر. فما السبب يا ترى في هذا الانقلاب الفجائي؟ ما الذي حمل الملك والعسكري على القبول، بعد أن صرح الأول ذلك التصريح، وأعرب الثاني عن رفضه بالرحيل؟ هل اعتمد الملك على وعود الوزراء أصحابه ومعها ضمانات رسمية سرية، أم هل كان الملك مكرها؟
أقف ها هنا لأقول كلمة فيها بيان شخصي؛ ليلة كان الملك فيصل يقص علي قصة هذه المعاهدة، أو ما كان قسمته فيها من المفاوضات المفرحة والمفجعة، من «بابا كركر» في صحف باريس إلى تلك المذكرة في وزارة المستعمرات بلندن، جاءه رئيس الوزارة نوري السعيد بالخبر السار من منطقة القتال ببارزان، فتحول الحديث من لندن إلى بلاد الأكراد، وما سنحت بعد ذلك الفرص. سنحت الفرص؟! إنما هي كلمة باطلة لا يجوز أن أموه بها ذنبي؛ فقد ذهلت عن الموضوع فيما كان بعد ذلك من المجالس والأحاديث، وما عاد الملك إليه. وقد يكون شريكي في الذنب - رحمه الله - فشغلني مرارا عن السياسة بتلك الأحاديث الحافلة بالعبر وباللطائف البشرية.
अज्ञात पृष्ठ