طبع على أن يعشق العمل يسند إليه، فهو يعطيه كل قلبه وكل تفكيره وكل حديثه، وإن شئت فقل: وكل أحلامه؛ أسندت إليه المدرسة فكانت شغله الشاغل: هي أغنيته وهي أحدوثته وهي شكواه وهي مفخرته.
من أجل هذا تراه يستقصي دقائق عمله ويستشف بواطنه ويدير بيده دقيقه وعظيمه، ولا يطمئن لشيء لم يشرف هو بنفسه عليه؛ فالناس منه في راحة وهو من نفسه في عناء.
كان في المدرسة نحو أربعمائة طالب؛ ولست أكذبك إذا قلت: إن كل طالب كان يشعر أن ناظره يعرفه ويقدره ويزن كفاياته العلمية والخلقية، وأن نظره ينفذ إلى أعماق نفسه فيعرف بواطنه. قد أعد للطلبة دفترا وجعل لكل طالب صفحة يقيد فيها بخطه ما يصدر عنه.
ظهرة يشف ظاهره عن باطنه ويتمثل قلبه في لسانه. عمله في النور دائما، ليس للدس ولا للجاسوسية رواج عنده.
صدق في القول حتى لم يأخذ عنه أستاذ ولا طالب كذبة، وإرادة جبارة تستهين بالشهرة والمنصب والمرض، وعدل دقيق مضمن مع من يحب ومن يكره، مع ذي الحول ومن لا حول له، لا يبالي من يعادي متى صادق الحق. من طلب منه غير الحق رده في أناة، فإن أعاد عليه الرجاء رده في جفاء.
هذا إلى صراحة في القول نادرة شعرنا بمرارتها لما شاع عندنا من نعومة في المعاملة وغلو في المجاملة - لا يجد التردد إلى نفسه منفذا، إن قال: لا فلا إلى الأبد أو نعم فنعم لا إلى حين.
وهو في سياسته سيكولوجي ماهر، يشتد ويلين، ويوعد ويعد، ويعبس ويبسم بميزان دقيق، يعالج فلا يخطئ في العلاج، تارة بالسم وطورا بالترياق. شعر طلبته بأنه كبير العقل كبير النفس دقيق النظر دقيق العدل، فهابوه، وشعروا بأنه يستر وراء ظاهره غير الناعم قلبا رحيما فأحبوه، فكان من ذلك هيبة وحب قل أن يجتمعا لرئيس.
هل رأيت مثله كثيرا ناظرا يرى كل طالب أن علم ناظره بجريمته أكبر من كل عقوبة، ويتمنى أن يعاقب على يد غيره ضعف العقوبة على يده؟ أو رأيت ناظرا فزع طلبته لخروجه من بينهم كما فزعوا يوم خروجه حتى كاد يقضى عليهم من الغم؟ أو رأيت جزعا يفتك بالصبر وحزنا يقلقل الأحشاء كالذي كان عند وفاته؟ •••
ولم يكن ما يعانيه من شئون المدرسة في الخارج بأقل مما يعانيه في شئونها الداخلية؛ فما السفينة لعبت بها الأمواج وأشرفت على الغرق يحاول ربانها النجاة بها، ولا البيت تلتهم النيران ما حوله ويعمل صاحبه على الحيطة له، يعادل ما كانت تعاني مدرسة القضاء من أغراض عديدة وسلطات قوية تريد القضاء عليها، ومع ذلك ظلت المدرسة زهرة المدارس ما بقيت في حماه.
تسلمها نواة صغيرة وسلمها شجرة يانعة.
अज्ञात पृष्ठ