وهذه الكلمة بهذا المعنى تدور في الكتب وعلى الألسنة دورانا كبيرا؛ لأن حياة الإنجليز الأخلاقية والسياسية تخضع لهذا المعنى كثيرا، فهو مسلكهم في فض النزاع بين الأفراد في المعاملات اليومية، وفي الخلاف بين أفراد الأسرة، وفي الأحزاب السياسية، وفي المفاوضات بين الدول، وهكذا؛ وعلى الجملة فقد استعملوا هذا المعنى كثيرا في حياتهم فكثر استعماله في لغتهم.
ولكنا لا نستعمله كثيرا في حياتنا فلم نشعر بما يلجئنا إلى استعماله في لغتنا ؛ فإنا إذا تنازع فردان منا أو حزبان صمم كل منهما على وجهة نظره إلى النهاية غالبا مهما كانت نتيجة ذلك من الخراب، واعتقد الاعتقاد الجازم أن رأيه كله صواب لا محالة، ورأي مخالفه كله خطأ لا محالة؛ ولأجل هذا لا يسمح أن يدخل في صوابه شيء من خطأ مخالفه. أما هذا الخلق الذي تدل عليه هذه الكلمة الإنجليزية فيتطلب أن يحترم ذو الرأي رأي مخالفه، ثم يجيز في باطن نفسه أن يكون رأيه خطأ ورأي مخالفه صوابا، أو على الأقل يجوز أن يكون في رأيه بعض الصواب وبعض الخطأ، وفي رأي مخالفه بعض الصواب وبعض الخطأ، فيحملهما ذلك على أن يتقاربا ويتفقا على حل وسط.
لا أجد أقرب في اللغة العربية للدلالة على هذا المعنى من كلمة «مصالحة»، فمن معاني المصالحة القانونية في كتب الفقه أن يكون بين اثنين خصومة وكل منهما يدعي بحق، فيأخذ كل منهما بعض حقه وينزل للآخر عن بعض حقه، فإذا وسعنا هذا المعنى وجعلناه يطبق على المعنويات كما طبق على الحقوق المالية كانت هذه الكلمة أليق للدلالة على كلمة
Compromise
الإنجليزية، ثم إذا أكثرنا استعمال هذا المعنى في حياتنا اليومية اضطر الناس للتعبير عنه بهذا اللفظ فصقل وأخذ حيزه من الأفكار ومن المعاجم.
وبعد، فما الدائرة التي يستعمل فيها هذا اللفظ، وأي مناحي الحياة يستخدم فيها؟
إني أرى أن الحياة العملية في جميع مناحيها مضطرة إلى استخدام المصالحة أو التصالح، وهذا من أهم القروق بين المنطق النظري والحياة العملية؛ فالمنطق بنظرياته يحكم أحكاما صارمة، فهذا أبيض وهذا أسود ولا شيء من الأبيض بأسود، وهذه القضية صحيحة أو خطأ ولا شيء بينهما، وهذا الرأي حق أو باطل لا محالة؛ أما الحياة العملية فليس فيها هذه الأحكام القاطعة الحاسمة، ولكن فيها المصالحة سواء كان ذلك في النواحي الأخلاقية أو القانونية أو السياسية، فكل - إنسان إن دققت النظر فيه - مسرح صغير تلعب فيه الفضيلة والرذيلة وتتحاربان، ثم تتصالحان على أن تتنازل الفضيلة عن بعض تشدداتها، وتتنازل الرذيلة عن بعض استهتارها. وما الفضيلة في الحقيقة إلا الرذائل معدلة أو منقحة.
فالإنسان المتوحش كان يعيش بغرائزه، فلما تمدن عدلت هذه الغرائز المتوحشة وسميت فضائل. فالفضائل بالنسبة للرذائل كالزهرة في البستان والزهرة في الوادي، أو كالقط المستأنس بالنسبة إلى القط المتوحش. فالرغبة الجنسية الفطرية عند المتوحش تحولت إلى حب لطيف في المدنية، والقتل والغارة والانتقام عند المتوحشين دخل فيها العقل والنظام فصارت قانونا وسياسة وعدلا عند المتمدنين. والأنانية عدلت فصارت الثقة بالنفس واحترام النفس ونحو ذلك مما يعد فضائل؛ والحرب بين الأفراد والجماعات دخلها التعديل فسميت منافسة مشروعة كالمنافسة بين التجار والعلماء والأدباء، والمنافسة بين الأمم.
وما لنا نذهب بعيدا، ونظرية أرسطو في الأوساط وهي أن كل فضيلة وسط بين رذيلتين، ليست في الحقيقة إلا من هذا القبيل؛ أي أن هناك رذيلتين تعادلتا وتصالحتا فكان منهما الفضيلة، فالجبن والتهور تصالحا فكانت الشجاعة، والبخل والسرف تصالحا فكان الكرم، والفجور والخمود تصالحا فكانت العفة.
بل لعل هذا هو الشأن في العلم والأدب. فالخرافات وأوهام المتوحشين صارت خيالا خصبا عند المتمدنين ينتج الشعر والقصص، والتنجيم عند الأولين صار علم الفلك عند الآخرين، والسحر والكهانة في الجاهلية أصبحا علم النفس في العصور الحديثة، وتحويل المعادن إلى ذهب في القرون الوسطى أصبح الكيمياء في القرون القريبة، ووصفات العجائز والمعالجة بالتجارب أصبحت على مر الزمان علم الطب بعد أن دخلها كلها التعديل والمصالحة.
अज्ञात पृष्ठ